الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وقوله - عز وجل -: قالوا إن هذان لساحران ؛ يعنون موسى ؛ وهارون ؛ وهذا الحرف من كتاب الله - عز وجل - مشكل على أهل اللغة؛ وقد كثر اختلافهم في تفسيره؛ ونحن نذكر جميع ما قاله النحويون؛ ونخبر بما نظن أنه الصواب؛ والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                        وقبل شرح إعرابه نخبر بقراءة القراء؛ أما قراءة أهل المدينة ؛ والأكمه؛ في القراءة؛ فبتشديد "إن"؛ والرفع في "هذان"؛ وكذلك قرأ أهل العراق ؛ حمزة ؛ وعاصم - في رواية أبي بكر بن عياش -؛ والمدنيون.

                                                                                                                                                                                                                                        وروي عن عاصم : "إن هذان"؛ بتخفيف "إن"؛ ويصدق ما قرأه عاصم في هذه القراءة ما يروى عن أبي ؛ فإنه قرأ: "ما هذان إلا ساحران"؛ وروي أيضا عنه أنه قرأ: "إن هذان إلا ساحران"؛ ورويت عن الخليل أيضا: "إن هذان لساحران"؛ بالتخفيف؛ والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل ؛ وقرأ أبو عمرو ؛ وعيسى بن عمر : "إن هذين لساحران"؛ بتشديد "إن"؛ ونصب "هذين".

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 362 ] فهذه الرواية فيه؛ فأما احتجاج النحويين؛ فاحتجاج أبي عمرو في مخالفته المصحف في هذا أنه روي أنه من غلط الكاتب؛ وأن في الكتاب غلطا ستقيمه العرب بألسنتها؛ يروى ذلك عن عثمان بن عفان ؛ وعن عائشة - رحمهما الله -؛ وأما الاحتجاج في "إن هذان"؛ بتشديد "إن"؛ ورفع "هذان"؛ فحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب - وهو رأس من رؤساء الرواة -؛ أنها لغة لكنانة ؛ يجعلون ألف الاثنين في الرفع؛ والنصب؛ والخفض؛ على لفظ واحد؛ يقولون: "أتاني الزيدان"؛ و"رأيت الزيدان"؛ ومررت بالزيدان"؛ وهؤلاء ينشدون:


                                                                                                                                                                                                                                        فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى مساغا لناباه الشجاع لصمما



                                                                                                                                                                                                                                        وهؤلاء أيضا يقولون: "ضربته بين أذناه"؛ و"من يشتري مني الخفان؟"؛ وكذلك روى أهل الكوفة أنها لغة لبني الحرث بن كعب ؛ قال النحويون القدماء: ههنا هاء مضمرة؛ المعنى: "إنه هذان لساحران"؛ [ ص: 363 ] وقالوا أيضا: إن معنى "إن"؛ معنى "نعم"؛ المعنى: "نعم هذان لساحران"؛ وينشدون:


                                                                                                                                                                                                                                        ويقلن شيب قد علا     ك وقد كبرت فقلت إنه



                                                                                                                                                                                                                                        ويحتجون بأن هذه اللام أصلها أن تقع في الابتداء؛ وأن وقوعها في الخبر جائز؛ وينشدون في ذلك:


                                                                                                                                                                                                                                        خالي لأنت ومن جرير خاله     ينل العلاء ويكرم الإخوانا

                                                                                                                                                                                                                                        وأنشدوا أيضا:


                                                                                                                                                                                                                                        أم الحليس لعجوز شهربة     ترضى من الشاة بعظم الرقبة

                                                                                                                                                                                                                                        قالوا: المعنى: "لأنت خالي"؛ والمعنى: "لأم الحليس عجوز"؛ وقال الفراء في هذا: إنهم زادوا فيها النون في التثنية؛ وتركوا الألف على حالها في الرفع؛ والنصب؛ والجر؛ كما فعلوا في "الذي"؛ فقالوا: "الذين"؛ في الرفع؛ والنصب؛ والجر؛ فهذا جميع ما احتج به النحويون؛ والذي عندي - والله أعلم -؛ وكنت عرضته على عالمينا؛ محمد بن يزيد ؛ وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي ؛ فقبلاه؛ وذكرا أنه أجود ما سمعاه في هذا؛ وهو: "إن"؛ قد وقعت موقع "نعم"؛ وأن اللام وقعت موقعها؛ وأن المعنى: "هذان لهما ساحران" .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 364 ] والذي يلي هذه في الجودة مذهب بني كنانة في ترك ألف التثنية على هيئة واحدة؛ لأن حق الألف أن تدل على الاثنين؛ وكان حقها ألا تتغير؛ كما لم تتغير ألف "رحى"؛ و"عصا"؛ ولكن كان نقلها إلى الياء في النصب؛ والخفض؛ أبين وأفضل للتمييز بين المرفوع؛ والمنصوب؛ والمجرور.

                                                                                                                                                                                                                                        فأما قراءة عيسى بن عمر ؛ وأبي عمرو بن العلاء ؛ فلا أجيزها؛ لأنها خلاف المصحف؛ وكل ما وجدته إلى موافقة المصحف أقرب لم أجز مخالفته؛ لأن اتباعه سنة؛ وما عليه أكثر القراء؛ ولكني أستحسن "إن هذان لساحران"؛ بتخفيف "إن"؛ وفيه إمامان؛ عاصم ؛ والخليل ؛ وموافقة أبي في المعنى؛ وإن خالفه اللفظ.

                                                                                                                                                                                                                                        ويستحسن أيضا "إن هذان"؛ بالتشديد؛ لأنه مذهب أكثر القراء؛ وبه يقرأ؛ وهو قوي في العربية. قوله (تعالى): ويذهبا بطريقتكم المثلى ؛ معناه في قول النحويين: "بجماعتكم الأشراف"؛ و"المثلى"؛ تأنيث "الأمثل"؛ ومعنى "الأمثل"؛ و"المثلى"؛ معنى "ذو الفضل الذي يستحق أن يقال فيه: هذا أمثل قومه"؛ وفي التفسير: "بطريقتكم المثلى": بأشرافكم.

                                                                                                                                                                                                                                        والعرب تقول للرجل الفاضل: "هذا طريقة قومه"؛ و"نظيرة قومه"؛ و"نظورة قومه"؛ كل هذا للرجل الفاضل؛ وإنما تأويله: "هذا الذي ينبغي أن يجعله قومه قدوة؛ ويسلكوا طريقته"؛ والذي قال أيضا: "هذا نظورة قومه"؛ و"نظيرة قومه"؛ معناه: "هذا الذي ينبغي أن ينظر إليه قومه؛ وأن يتبعوه"؛ والذي عندي - والله أعلم - أن في الكلام محذوفا يدل عليه ما بقي؛ إنما المعنى: "يذهبا بأهل طريقتكم المثلى"؛ كما قال الله - عز وجل -: [ ص: 365 ] واسأل القرية التي كنا فيها ؛ معناه: "واسأل أهل القرية"؛ وكذلك قول العرب: "هذا طريقة قومه"؛ معناه: "هذا صاحب طريقة قومه".

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية