nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112nindex.php?page=treesubj&link=28987_28902وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون عطف عظة على عظة ، والمعطوف عليها هي جمل الامتنان بنعم الله تعالى عليهم في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=53وما بكم من نعمة فمن الله ، وما اتصل بها إلى قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=83يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون فانتقل الكلام بعد ذلك بتهديد من قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=84ويوم نبعث من كل أمة شهيدا .
فبعد أن توعدهم بقوارع الوعيد بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=104ولهم عذاب أليم وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم إلى قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=109لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون عاد الكلام إلى تهديدهم بعذاب في الدنيا ; بأن جعلهم مضرب مثل لقرية عذبت عذاب الدنيا ، أو جعلهم مثلا وعظة لمن يأتي بمثل ما أتوا به من إنكار نعمة الله .
[ ص: 304 ] ويجوز أن يكون المعطوف عليها جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=111يوم تأتي كل نفس إلخ ، على اعتبار تقدير اذكر ، أي اذكر لهم هول
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=111يوم تأتي كل نفس تجادل إلخ ، وضرب الله مثلا لعذابهم في الدنيا شأن قرية كانت آمنة إلخ .
وضرب : بمعنى جعل ، أي جعل المركب الدال عليه كون نظمه ، وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما يقال : أرسل فلان مثلا قوله : كيت وكيت .
والتعبير عن ضرب المثل الواقع في حال نزول الآية بصيغة المضي للتشويق إلى الإصغاء إليه ، وهو من استعمال الماضي في الحال لتحقيق وقوعه ، مثل
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1أتى أمر الله ، أو لتقريب زمن الماضي من زمن الحال ، مثل : قد قامت الصلاة .
ويجوز أن يكون ( ضرب ) مستعملا في معنى الطلب والأمر ، أي اضرب يا
محمد لقومك مثلا قرية إلى آخره ، كما سيجيء عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة في سورة الزمر ، وإنما صيغ في صيغة الخبر ; توسلا إلى إسناده إلى الله تشريفا له وتنويها به ، ويفرق بينه وبين ما صيغ بصيغة الطلب نحو
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=13واضرب لهم مثلا أصحاب القرية بما سيذكر في سورة الزمر فراجعه ، وقد تقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26 30 إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا في سورة البقرة ، وقوله في سورة إبراهيم
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=24ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة .
وجعل المثل قرية موصوفة بصفات تبين حالها المقصود من التمثيل ، فاستغنى عن تعيين القرية .
والنكتة في ذلك أن يصلح هذا المثل للتعريض بالمشركين باحتمال أن تكون القرية قريتهم ، أعني ( مكة ) بأن جعلهم مثلا للناس من بعدهم ، ويقوي هذا الاحتمال إذا كانت هذه الآية قد نزلت بعد أن أصاب
أهل مكة الجوع الذي أنذروا به في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=10فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين [ ص: 305 ] nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=11يغشى الناس هذا عذاب أليم ، وهو الدخان الذي كان يراه
أهل مكة أيام القحط الذي أصابهم بدعاء النبيء صلى الله عليه وسلم .
ويؤيد هذا قوله بعد
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=113ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون .
ولعل المخاطب بهذا المثل هم المسلمون الذين هاجروا من بعد ما فتنوا ، أي أصحاب هجرة الحبشة تسلية لهم عن مفارقة بلدهم ، وبعثا لهم على أن يشكروا الله تعالى إذ أخرجهم من تلك القرية فسلموا مما أصاب أهلها ، وما يصيبهم .
وتقدم معنى القرية عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259أو كالذي مر على قرية في سورة البقرة .
والمراد بالقرية ( أهلها ) إذ هم المقصود من القرية كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82واسأل القرية والأمن : السلامة من تسلط العدو .
والاطمئنان : الدعة وهدوء البال ، وقد تقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=260ولكن ليطمئن قلبي في سورة البقرة ، وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=103فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة في سورة النساء .
وقدم الأمن على الطمأنينة ; إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه ، كما أن الخوف بسبب الانزعاج والقلق .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112يأتيها رزقها رغدا تيسير الرزق فيها من أسباب راحة العيش ، وقد كانت
مكة كذلك ، قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=57أولم نمكن لهم حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء ، والرزق : الأقوات ، وقد تقدم عند قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=37لا يأتيكما طعام ترزقانه في سورة يوسف .
والرغد : الوافر الهنيء ، وتقدم عند قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=35وكلا منها رغدا حيث شئتما في سورة البقرة .
[ ص: 306 ] و
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112من كل مكان بمعنى : من أمكنة كثيرة ، و ( كل ) تستعمل في معنى الكثرة ، كما تقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=25وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها في سورة الأنعام .
والأنعم : جمع نعمة على غير قياس .
ومعنى
nindex.php?page=treesubj&link=30539الكفر بأنعم الله : الكفر بالمنعم ; لأنهم أشركوا غيره في عبادته ، فلم يشكروا المنعم الحق ، وهذا يشير إلى قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=83يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون .
واقتران فعل ( كفرت ) بفاء التعقيب بعد
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112كانت آمنة مطمئنة باعتبار حصول الكفر عقب النعم التي كانوا فيها حين طرأ عليهم الكفر ، وذلك عند بعثة الرسول إليهم .
وأما قرن
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بفاء التعقيب فهو تعقيب عرفي في مثل ذلك المعقب ; لأنه حصل بعد مضي زمن عليهم ، وهم مصرون على كفرهم ، والرسول يكرر الدعوة ، وإنذارهم به ، فلما حصل عقب ذلك بمدة غير طويلة - وكان جزاء على كفرهم - جعل كالشيء المعقب به كفرهم .
والإذاقة : حقيقتها إحساس اللسان بأحوال الطعوم ، وهي مستعارة هنا ، وفي مواضع من القرآن إلى إحساس الألم والأذى إحساسا مكينا ، كتمكن ذوق الطعام من فم ذائقه ، لا يجد له مدفعا ، وقد تقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95ليذوق وبال أمره في سورة العقود .
واللباس : حقيقته الشيء الذي يلبس ، وإضافته إلى الجوع والخوف قرينة على أنه مستعار إلى ما يغشى من حالة إنسان ملازمة له كملازمة اللباس لابسه ، كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187هن لباس لكم وأنتم لباس لهن بجامع الإحاطة والملازمة .
[ ص: 307 ] ومن قبيلها استعارة البلى لزوال صفة الشخص ; تشبيها للزوال بعد التمكن ببلى الثوب بعد جدته في قول
أبي الغول الطهوي :
ولا تبلى بسالتهم وإن هـم صلوا بالحرب حينا بعد حين
. واستعارة سل الثياب إلى زوال المعاشرة في قول
امرئ القيس :
فسلي ثيابي عن ثيابك تنسل
ومن لطائف البلاغة جعل اللباس لباس شيئين ; لأن تمام اللبسة أن يلبس المرء إزارا ودرعا .
ولما كان اللباس مستعارا لإحاطة ما غشيهم من الجوع والخوف ، وملازمته أريد إفادة أن ذلك متمكن منهم ، ومستقر في إدراكهم استقرار الطعام في البطن ; إذ يذاق في اللسان والحلق ويحس في الجوف والأمعاء .
فاستعير له فعل الإذاقة تمليحا ، وجمعا بين الطعام واللباس ; لأن غاية القرى والإكرام أن يؤدب للضيف ويخلع عليه خلعة من إزار وبرد ، فكانت استعارتان تهكميتان .
فحصل في الآية استعارتان : الأولى : استعارة الإذاقة ، وهي تبعية مصرحة ، والثانية : اللباس ، وهي أصلية مصرحة .
ومن بديع النظم أن جعلت الثانية متفرعة على الأولى ، ومركبة عليها بجعل لفظها مفعولا للفظ الأولى ، وحصل بذلك أن الجوع والخوف محيطان بأهل القرية في سائر أحوالهم ، وملازمان لهم وأنهم بالغان منهم مبلغا أليما .
وأجمل
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112بما كانوا يصنعون اعتمادا على سبق ما يبينه من قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112فكفرت بأنعم الله .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112nindex.php?page=treesubj&link=28987_28902وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ عَطْفُ عِظَةٍ عَلَى عِظَةٍ ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا هِيَ جُمَلُ الِامْتِنَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=53وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ، وَمَا اتَّصَلَ بِهَا إِلَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=83يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَهْدِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=84وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا .
فَبَعْدَ أَنْ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوَارِعِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=104وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=109لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا ; بِأَنْ جَعَلَهُمْ مَضْرِبَ مَثَلٍ لِقَرْيَةٍ عُذِّبَتْ عَذَابَ الدُّنْيَا ، أَوْ جَعَلَهُمْ مَثَلًا وَعِظَةً لِمَنْ يَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ إِنْكَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ .
[ ص: 304 ] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا جُمْلَةَ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=111يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ إِلَخْ ، عَلَى اعْتِبَارِ تَقْدِيرِ اذْكُرْ ، أَيِ اذْكُرْ لَهُمْ هَوْلَ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=111يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ إِلَخْ ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا شَأْنَ قَرْيَةٍ كَانَتْ آمِنَةً إِلَخْ .
وَضَرَبَ : بِمَعْنَى جَعَلَ ، أَيْ جَعَلَ الْمُرَكَّبَ الدَّالَّ عَلَيْهِ كَوْنَ نَظْمِهِ ، وَأَوْحَى بِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَمَا يُقَالُ : أَرْسَلَ فُلَانٌ مَثَلًا قَوْلُهُ : كَيْتٌ وَكَيْتٌ .
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ نُزُولِ الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِي الْحَالِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ ، مَثْلُ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=1أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ، أَوْ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنْ زَمَنِ الْحَالِ ، مِثْلَ : قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ( ضَرَبَ ) مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الطَّلَبِ وَالْأَمْرِ ، أَيِ اضْرِبْ يَا
مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ مَثَلًا قَرْيَةً إِلَى آخِرِهِ ، كَمَا سَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً فِي سُورَةِ الزُّمَرِ ، وَإِنَّمَا صِيغَ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ ; تَوَسُّلًا إِلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَنْوِيهًا بِهِ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا صِيغَ بِصِيغَةِ الطَّلَبِ نَحْوُ
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=13وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ بِمَا سَيُذْكَرُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ فَرَاجِعْهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26 30 إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=24أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً .
وَجَعَلَ الْمَثَلَ قَرْيَةً مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ تُبَيِّنُ حَالَهَا الْمَقْصُودَ مِنَ التَّمْثِيلِ ، فَاسْتَغْنَى عَنْ تَعْيِينِ الْقَرْيَةِ .
وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصْلُحَ هَذَا الْمَثَلُ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْقَرْيَةُ قَرْيَتَهُمْ ، أَعْنِي ( مَكَّةَ ) بِأَنْ جَعَلَهُمْ مَثَلًا لِلنَّاسِ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أَصَابَ
أَهْلَ مَكَّةَ الْجُوعُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=10فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [ ص: 305 ] nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=11يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، وَهُوَ الدُّخَانُ الَّذِي كَانَ يَرَاهُ
أَهْلُ مَكَّةَ أَيَّامَ الْقَحْطِ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِدُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ بَعْدُ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=113وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ .
وَلَعَلَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْمَثَلِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ، أَيْ أَصْحَابُ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ تَسْلِيَةً لَهُمْ عَنْ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِمْ ، وَبَعْثًا لَهُمْ عَلَى أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى إِذْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَسَلِمُوا مِمَّا أَصَابَ أَهْلَهَا ، وَمَا يُصِيبُهُمْ .
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْقَرْيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ ( أَهْلُهَا ) إِذْ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَرْيَةِ كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ وَالْأَمْنُ : السَّلَامَةُ مِنْ تَسَلُّطِ الْعَدُوِّ .
وَالِاطْمِئْنَانُ : الدَّعَةُ وَهُدُوءُ الْبَالِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=260وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=103فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .
وَقَدَّمَ الْأَمْنَ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ ; إِذْ لَا تَحْصُلُ الطُّمَأْنِينَةُ بِدُونِهِ ، كَمَا أَنَّ الْخَوْفَ بِسَبَبِ الِانْزِعَاجِ وَالْقَلَقِ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا تَيْسِيرُ الرِّزْقِ فِيهَا مِنْ أَسْبَابِ رَاحَةِ الْعَيْشِ ، وَقَدْ كَانَتْ
مَكَّةُ كَذَلِكَ ، قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=57أَوْلَمَ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَالرِّزْقُ : الْأَقْوَاتُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=37لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ .
وَالرَّغَدُ : الْوَافِرُ الْهَنِيءُ ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=35وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
[ ص: 306 ] وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112مِنْ كُلِّ مَكَانٍ بِمَعْنَى : مِنْ أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ ، وَ ( كُلِّ ) تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=25وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
وَالْأَنْعُمِ : جَمْعُ نِعْمَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ .
وَمَعْنَى
nindex.php?page=treesubj&link=30539الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللَّهِ : الْكُفْرُ بِالْمُنْعِمِ ; لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ ، فَلَمْ يَشْكُرُوا الْمُنْعِمَ الْحَقَّ ، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=83يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ .
وَاقْتِرَانُ فِعْلِ ( كَفَرَتْ ) بِفَاءِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً بِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْكُفْرِ عَقِبَ النِّعَمِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا حِينَ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ ، وَذَلِكَ عِنْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ .
وَأَمَّا قَرْنُ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَهُوَ تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمُعَقَّبِ ; لِأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ عَلَيْهِمْ ، وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كَفْرِهِمْ ، وَالرَّسُولُ يُكَرِّرُ الدَّعْوَةَ ، وَإِنْذَارُهُمْ بِهِ ، فَلَمَّا حَصَلَ عَقِبَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ غَيْرِ طَوِيلَةٍ - وَكَانَ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ - جُعِلَ كَالشَّيْءِ الْمُعَقَّبِ بِهِ كُفْرَهُمْ .
وَالْإِذَاقَةُ : حَقِيقَتُهَا إِحْسَاسُ اللِّسَانِ بِأَحْوَالِ الطُّعُومِ ، وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ هُنَا ، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى إِحْسَاسِ الْأَلَمِ وَالْأَذَى إِحْسَاسًا مَكِينًا ، كَتَمَكُّنِ ذَوْقِ الطَّعَامِ مِنْ فَمِ ذَائِقِهِ ، لَا يَجِدُ لَهُ مِدْفَعًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ .
وَاللِّبَاسُ : حَقِيقَتُهُ الشَّيْءُ الَّذِي يُلْبَسُ ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجُوعِ وَالْخَوْفِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ إِلَى مَا يُغْشَى مِنْ حَالَةِ إِنْسَانٍ مُلَازِمَةٍ لَهُ كَمُلَازَمَةِ اللِّبَاسِ لَابِسَهُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ بِجَامِعِ الْإِحَاطَةِ وَالْمُلَازَمَةِ .
[ ص: 307 ] وَمِنْ قَبِيلِهَا اسْتِعَارَةُ الْبِلَى لِزَوَالِ صِفَةِ الشَّخْصِ ; تَشْبِيهًا لِلزَّوَالِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ بِبِلَى الثَّوْبِ بَعْدَ جِدَّتِهِ فِي قَوْلِ
أَبِي الْغُولِ الطَّهَوِيِّ :
وَلَا تَبْلَى بَسَالَتُهُمْ وَإِنْ هُـمُ صُلُوا بِالْحَرْبِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ
. وَاسْتِعَارَةُ سَلِّ الثِّيَابِ إِلَى زَوَالِ الْمُعَاشَرَةِ فِي قَوْلِ
امْرِئِ الْقَيْسِ :
فَسُلِّي ثِيَابِي عَنْ ثِيَابِكِ تَنْسِلِ
وَمِنْ لَطَائِفِ الْبَلَاغَةِ جَعْلُ اللِّبَاسِ لِبَاسَ شَيْئَيْنِ ; لِأَنَّ تَمَامَ اللُّبْسَةِ أَنْ يَلْبِسَ الْمَرْءُ إِزَارًا وَدِرْعًا .
وَلَمَّا كَانَ اللِّبَاسُ مُسْتَعَارًا لِإِحَاطَةِ مَا غَشِيَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ، وَمُلَازَمَتِهِ أُرِيدَ إِفَادَةُ أَنَّ ذَلِكَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ ، وَمُسْتَقِرٌّ فِي إِدْرَاكِهِمِ اسْتِقْرَارَ الطَّعَامِ فِي الْبَطْنِ ; إِذْ يُذَاقُ فِي اللِّسَانِ وَالْحَلْقِ وَيُحَسُّ فِي الْجَوْفِ وَالْأَمْعَاءِ .
فَاسْتُعِيرَ لَهُ فِعْلُ الْإِذَاقَةِ تَمْلِيحًا ، وَجَمْعًا بَيْنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ ; لِأَنَّ غَايَةَ الْقِرَى وَالْإِكْرَامِ أَنْ يُؤْدَبَ لِلضَّيْفِ وَيُخْلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً مِنْ إِزَارٍ وَبُرُدٍ ، فَكَانَتِ اسْتِعَارَتَانِ تَهَكُّمِيَّتَانِ .
فَحَصَلَ فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَتَانِ : الْأُولَى : اسْتِعَارَةُ الْإِذَاقَةِ ، وَهِيَ تَبَعِيَّةٌ مُصَرِّحَةٌ ، وَالثَّانِيَةُ : اللِّبَاسِ ، وَهِيَ أَصْلِيَّةٌ مُصَرِّحَةٌ .
وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ أَنْ جُعِلَتِ الثَّانِيَةُ مُتَفَرِّعَةً عَلَى الْأَوْلَى ، وَمُرَكَّبَةً عَلَيْهَا بِجَعْلِ لَفْظِهَا مَفْعُولًا لِلَفْظِ الْأُولَى ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجُوعَ وَالْخَوْفَ مُحِيطَانِ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ ، وَمُلَازِمَانِ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ بَالِغَانِ مِنْهُمْ مَبْلَغًا أَلِيمًا .
وَأَجْمَلَ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ اعْتِمَادًا عَلَى سَبَقِ مَا يُبَيِّنُهُ مِنْ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ .