الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          المقصد الثامن من فقه القرآن

                          ( إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر )

                          التنازع بين الأحياء في مرافق المعيشة ووسائل المال والجاه غريزة من غرائز الحياة ، وإفضاء التنازع إلى التعادي والاقتتال بين الجماعات والأقوام ، سنة من سنن الاجتماع ، أو ضرورة من ضروراته ، قد تكون وسيلة من وسائل العمران ، فإن كان التنازع بين الحق والباطل كان الفلج للحق وإن كان بين العلم والجهل كان الظفر للعلم ، وإن كان بين النظام والاختلال كان النصر للنظام وإن كان بين الصلاح والفساد كان الغلب للصلاح ، كما قال تعالى في الحق والباطل : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) ( 21 : 18 ) وقال في بيان نتيجة المثل الذي ضربه لهما : ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ( 13 : 17 ) .

                          وأما التنازع والتعادي والتقاتل على الشهوات الباطلة والسلطة الظالمة ، واستبعاد القوي للضعيف ، والاستكبار والعلو في الأرض ؛ فإن ضرره كبير ، وشره مستطير ، ويزيد ضراوة البشر بسفك الدماء ، ويورثهم الحقد ويؤرث بينهم العداوة والبغضاء ، وقد اشتدت هذه المفاسد [ ص: 228 ] في هذا الزمان ، حتى خيف أن تقضي على هذا العمران العظيم في وقت قصير ، بما استحدثه العلم الواسع من وسائل التخريب والتدمير ، كالغازات السامة ومواد الهدم والتحريق تقذفها الطيارات المحلقة في جو السماء ، على المدائن المكتظة بالألوف من الرجال والنساء والأطفال ، فتقتلهم في ساعة واحدة أو ساعات معدودة .

                          وقد حارت الدول الحربية في تلافي هذا الخطر ، وترى دهاقين السياسة في كل منها يتفاوضون مع أقرانهم لوضع نظام لتقرير السلام ، ودرء مفاسد الخصام ، بمعاهدات يعقدونها ، وأيمان يتقاسمونها ، ثم ينفضون خائبين ، أو ينقضون ما أبرموا متأولين ، ويعودون إلى مثله مخادعين .

                          وقد بين الله تعالى في كتابه سبب هذه الخيبة بما وجدنا مصداقه في هذه الدول بأظهر مما كان في عرب الجاهلية الذين نزل هذا البيان في عهدهم ، كأنه نزل في هؤلاء الإفرنج دون غيرهم ، وهو من عجائب القرآن في لفظه ومعناه . وذلك قوله تعالى بعد الأمر بالإيفاء بعهده والنهي عن نقضه : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ) ( 16 : 92 ) والمعنى : لا تكونوا في نقض عهودكم والعود إلى تجديدها كالمرأة الحمقاء التي تنقض غزلها من بعد قوة إبرامه نقض أنكاث ( وهو جمع نكث بالكسر : ما نقض ليغزل مرة أخرى ) حال كونكم تتخذون عهودكم دخلا بينكم ( والدخل بالتحريك الفساد والغش الخفي الذي يدخل في الشيء وما هو منه ) لأجل أن تكون أمة أربى من أمة أخرى رجالا ، وأكثر ربحا ومالا ، وأقوى أسنة ونصالا .

                          والمراد : أن معاهدات الصلح والاتفاق بين الأمم ، يجب أن يقصد بها الإصلاح والعدل والمساواة ، فتبنى على الإخلاص دون الدخل والدغل الذي يقصد به ما ذكر .

                          ولو طلبوا المخرج والسلامة من هذا الخطر لوجدوهما في دين الإسلام فهو دين الحق والعدل والسلام ، وهاك بعض الشواهد على هذا من قواعد الحرب والسلم في آيات القرآن .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية