الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب أيام منى والنفر فيها قال الله عز وجل : واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه قال أبو بكر : روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيام منى ثلاثة أيام التشريق ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه . واتفق أهل العلم على أن قوله بيان لمراد الآية في قوله : أيام معدودات ولا خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيام التشريق ؛ وقد روي ذلك عن علي وعمر [ ص: 394 ] وابن عباس وابن عمر وغيرهم ، إلا شيء رواه ابن أبي ليلى عن المنهال عن زر عن علي قال : " المعدودات : يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها شئت " . وقد قيل : إن هذا وهم ، ، والصحيح عن علي أنه قال ذلك في المعلومات . وظاهر الآية ينفي ذلك أيضا ؛ لأنه قال : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق برمي الجمار المفعول في أيام التشريق .

وأما المعلومات فقد روي عن علي وابن عمر : " أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده ، واذبح في أيها شئت " قال ابن عمر : " المعدودات أيام التشريق " ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : " المعلومات : العشر ، والمعدودات أيام التشريق " . وقد روى ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس : " المعلومات : يوم النحر وثلاثة أيام بعده أيام التشريق ، والمعدودات يوم النحر وثلاثة أيام بعده التشريق " وروى عبد الله بن موسى : أخبرنا عمارة بن ذكوان عن مجاهد عن ابن عباس قال : " المعدودات أيام العشر ، والمعلومات أيام النحر " فقوله : المعدودات إنها أيام العشر ، لا شك في أنه خطأ ولم يقل به أحد ، وهو خلاف الكتاب ، قال الله تعالى : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثلاث .

وقد روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أن المعلومات العشر ، والمعدودات أيام التشريق ، وهو قول الجمهور من التابعين ، منهم الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم .

وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد : أن المعلومات العشر ، والمعدودات أيام التشريق . وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران ، عن بشر بن الوليد قال : كتب أبو العباس الطوسي إلى أبي يوسف يسأله عن الأيام المعلومات ، فأملى علي أبو يوسف جواب كتابه : اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فروي عن علي وابن عمر أنها أيام النحر ، وإلى ذلك أذهب ؛ لأنه قال : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وذكر شيخنا أبو الحسن الكرخي عن أحمد القاري عن محمد ، عن أبي حنيفة ، أن المعلومات العشر ؛ وعن محمد : أنها أيام النحر الثلاثة : يوم الأضحى ويومان بعده . قال أبو بكر : فحصل من رواية أحمد القاري عن محمد ، ورواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف ، أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده ، ولم تختلف عن أبي حنيفة أن المعلومات أيام العشر ، والمعدودات أيام التشريق ؛ وهو قول ابن عباس المشهور

وقوله تعالى : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام لا دلالة فيه على أن المراد أيام النحر لاحتماله أن يريد : لما رزقهم من بهيمة الأنعام ، كقوله : ولتكبروا الله على ما هداكم والمعنى : لما [ ص: 395 ] هداكم . وأيضا يحتمل أن يريد بها أيام العشر ؛ لأن فيها يوم النحر ، وفيه الذبح ، ويكون بتكرار السنين عليه أياما . وذكر أهل اللغة أن المعدودات منفصلة عن المعلومات بدلالة اللفظ على افتراقهما في باب العدد ؛ وذلك لأن وصفها بالمعدودات دلالة التقليل ، كقوله تعالى : بخس دراهم معدودة وإنما يوصف بالعدد إذا أريد به التقليل ؛ لأنه يكون نقيض كثرة ؛ فهو كقولك : قليل وكثير ؛ فعرفت المعدودات بالتقليل ، وقيل للأخرى معلومات فعرفت بالشهرة ؛ لأنها عشرة . ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة بعد يوم النحر ، وأن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار وينفر ، وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر

واختلف فيمن لم ينفر حتى غابت الشمس من اليوم الثاني ، فروي عن عمر وابن عمر وجابر بن زيد والحسن وإبراهيم : " أنه إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل أن ينفر فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد " . وروي عن الحسن البصري : أن له أن ينفر في اليوم الثاني إذا رمى وقت الظهر كله ، فإن أدركته صلاة العصر بمنى ، فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث . وقال أصحابنا : إنه إذا لم ينفر حتى غابت الشمس فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمي جمرة اليوم الثالث ، ولا يلزمه ذلك إلا أن يصبح بمنى فحينئذ يلزمه رمي اليوم الثالث ولا يجوز تركه " . ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن من أقام بمنى إلى اليوم الثالث أنه لا يجوز له النفر حتى يرمي ، وإنما قالوا : إنه لا يلزمه رمي اليوم الثالث بإقامته بمنى إلى أن يمسي ، من قبل أن الليلة التي تلي اليوم الثاني هي تابعة له حكمها حكمه ، وليس حكمها حكم الذي بعدها ، ألا ترى أنه لو ترك الرمي في اليوم الأول رماه في ليلته ولم يكن مؤخرا له عن وقته ؟ لأنه صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا ليلا ، فكان حكم الليلة حكم اليوم الذي قبلها ولم يكن حكمها حكم الذي بعدها ؛ فلذلك قالوا : إن إقامته في اليوم الثاني بمنى إلى أن يمسي بمنزلة إقامته بها نهارا ، وإذا أقام حتى يصبح من اليوم الثالث لزمه الرمي بلا خلاف . وهذا مما يستدل به على صحة قول أبي حنيفة في تجويزه رمي اليوم الثالث قبل الزوال ؛ إذ قد صار وقتا للزوم الرمي ، ويستحيل أن يكون وقتا لوجوبه ثم لا يصح فعله فيه .

وأما قوله تعالى : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى فإنه قد قيل فيه وجهان :

أحدهما : فلا إثم عليه لتكفير سيئاته وذنوبه بالحج المبرور ؛ وروي نحوه عن عبد الله بن مسعود ، ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع [ ص: 396 ] كيوم ولدته أمه .

والوجه الثاني : أنه لا مأثم عليه في التعجيل ؛ وروي نحوه عن الحسن وغيره ، وقال : ومن تأخر فلا إثم عليه ؛ لأنه مباح له التأخير . وقوله : لمن اتقى يحتمل لمن اتقى ما نهى الله عنه في الإحرام بقوله : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وإن لم يتق فغير موعود بالثواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية