الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 316 ] التقليد مأخوذ من القلادة التي يقلد غيره بها ، ومنه : قلدت الهدي : فكأن الحكم في تلك الحادثة قد جعل كالقلادة في عنق من قلد فيه . واختلفوا في حقيقته ، هل هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أين قاله ؟ ، أي من كتاب أو سنة أو قياس . أو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله ؟ وجزم القفال في شرح التلخيص " بالأول ، والشيخ أبو حامد في تعليقه " والأستاذ أبو منصور بالثاني ، وعليه ابن الحاجب وغيره .

                                                      وتنبني عليهما مسألتان : المسألة الأولى أن العمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم هل يسمى تقليدا ؟ وفيه وجهان ، فإن قلنا بالثاني فلا يسمى تقليدا ، لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم نفس الحجة ، كذا قال ابن القطان وغيره ، وتردد فيه ابن دقيق العيد ، لأنه إن أريد بالسبب الذي قيل فيه خصوص ذلك السبب وعينه فهذا متوجه يقتضي أن يكون اتباعهم تقليدا . وإن أريد به أمر أعم من هذا ، فإن قلنا : إن الأنبياء لا يجتهدون [ ص: 317 ] فقد علمنا أن سبب أقوالهم الوحي فلا يكون تقليدا أيضا على الأول . وإن قلنا : إنهم يجتهدون فقد علمنا أن السبب أحد الأمرين : إما الوحي أو الاجتهاد . وعلى كل تقدير فقد علمنا السبب ، واجتهادهم معلوم العصمة . قلت : ويشهد له أن القفال بنى الخلاف في تسميته مقلدا على الخلاف في أنه هل كان عليه السلام يقول عن قياس ؟ فإن كان يقوله - وهو الأصح - فيقلد ، لأنه لا يدرى أقاله عن وحي أو قياس ، وإن قلنا بالمنع فليس بتقليد .

                                                      وقال القاضي الحسين في التعليق " : لا خلاف أن قبول قول غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين يسمى تقليدا . وأما قبول قوله عليه السلام فهل يسمى تقليدا ؟ وجهان ينبنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا ؟ قلت : وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في المسألة في أول السلسلة " أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليدا ، فإنه قال في حق الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ بقوله ما نصه : فإما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى .

                                                      وخطأ الماوردي من قال إنه ليس بتقليد ، ولكن قال الروياني في البحر " : أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي صلى الله عليه وسلم تقليدا ولم يرد حقيقة التقليد ، وإنما أراد القبول من السؤال عن وجهه .

                                                      وفي وقوع اسم التقليد عليه وجهان ، قال : والصحيح من المذهب أنه يتناوله هذا الاسم ، وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ ، وبه صرح إمام الحرمين في التلخيص " وقال : هو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق . واختار ابن السمعاني أنه لا يسمى تقليدا ، بل هو اتباع شخص ، لأن الدليل قد قام في أن له حجة ، فلا يكون قبول قوله قبول قول في الدين من قائله بلا حجة . وأغرب القاضي في التقريب " فنقل الإجماع على أن الآخذ بقول النبي عليه الصلاة والسلام ، والراجع إليه ليس بمقلد ، بل هو [ ص: 318 ] صائر إلى دليل وعلم يقين . فأما كونه صائرا إلى دليل وعلم يقين فلا ريب فيه ، وأما كونه لا يسمى تقليدا فمردود بالخلاف السابق . وقد قال الشافعي رحمه الله : ولا يجوز تقليد أحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا نص في أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقلد ، بل وفي أنه لا يقلد سواه . وأما القاضي فإنه أول كلام الشافعي وقال : لعله أراد بتقليده عليه الصلاة والسلام أنه ليس لأحد أن يقول له : من أين قلت ؟ ولا : لم قلت ؟ ثم قال : فإن كان أراد هكذا فكذا أيضا جاء في العامي مع المجتهد ، فإنه لا يسأله : من أين قلت ؟ وإذا لم يكن العامي عنه مقلدا فلا يكون أيضا . هذا كذلك .

                                                      وهذا الذي قاله القاضي ممنوع . بل الأصحاب اختلفوا في كلام الشافعي على طرق : ( أحدها ) تأويل من اعتقد أنه لا تقليد في اتباع الرسول ، ولا في اتباع العامي المجتهد . ورأس هذه الطائفة القاضي ، وقد أوله كما رأيت ، وتبعه الغزالي . واتفقت هذه الطائفة على الاعتضاد بهذا النص من الشافعي على أن اتباع العامي المجتهد ليس بتقليد ، فجرت على ظاهر قول الشافعي في المستثنى دون المستثنى منه ، وتصرفت في المستثنى بالتأويل إما مع الاعتراض ، كالقاضي ، أو لا معه ، كالغزالي . و ( ثانيها ) فرقة اعتقدت أن العامي مقلد ، وأن الأخذ بقول النبي عليه السلام مقبول ليس بتقليد ، وهذه الطائفة لم تجر على ظاهر النص ، لا في المستثنى ولا في المستثنى منه ، ومنهم ابن السمعاني فقال : هذا مذكور على طريق التوسع لا على طريق الحقيقة ، ورأس هذه الطائفة الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، فقال في أول " تعليقه " إذا قلنا بقوله الجديد فلا يجوز تقليد أحد بحال . وأما قول الشافعي في أدب القضاء " : إنه لا يجوز لأحد أن يقلد أحدا إلا الرسول . فمن فهم منه أن قبول قوله يسمى تقليدا فقد غلط ، وتقليد الرسول لا يجوز . وإنما صورته صورة التقليد ، وليس في الحقيقة تقليد ، وذلك أنه إن سئل عن شيء فأجاب كان جوابه في الصورة مثل [ ص: 319 ] أن يسأل الشافعي فيجيب ، لكن حقيقة التقليد قبول قول المجيب بغير دليل ، فجواب الشافعي لا يمكن هنا فلا بد فيه من الدليل ، وجواب الرسول بعينه حجة ودليل ، فلا يكون مثله في الجواب . انتهى .

                                                      وذكر بعضهم للنص تأويلين : ( أحدهما ) أن المعنى أنه لا يجوز لكل أحد تقليد أحد بعد الرسول ، بل يفترقون ، فعالمهم لا يقلد ، وعاميهم يقلد . وأما الرسول فنسبة العالم والجاهل إليه سواء ، والكل بالنسبة إليه بمنزلة الجاهل عند المجتهد يأخذ بقوله تقليدا ، بل لأنا قد قلنا : إن للعامي سؤال العالم عن مأخذه ، ولا كذلك الرسول [ فليس ] لعامي ولا للعالم أن يقول له : لم ؟ ولا : من أين ؟ وهذا التأويل أبقى لكلام الشافعي في المستثنى والمستثنى منه على ظاهره ، وليس فيه عمل إلا في تعميم قوله " أحد " على أن المعنى : كل أحد . و ( ثانيهما ) إبقاء الكلام على ظاهره من كل وجه ، وهو مبني على أنه لا يقلد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم . وأما المجتهد فلا يقلد . وذلك أن معنى التقليد أن يلقي المرء المقاليد ويطرح كله ويجعل اعتماده فيما يقع له من الحوادث وفي تفرق حملها على الرسول والرجوع إليه في كل نائبة ندرة . وإنما تطمئن فيمن لا يخطئ ، وذلك هو من قوله حجة ، وهو الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإن قلت : والرجوع إلى المجتهد رجوع إليه . قيل : ولكن لا وثوق بصواب المجتهد . فإذا لا يقلد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا ينبغي أن يحمل نهي الشافعي عن التقليد حيث قال المزني : هذا مختصر اختصرته من علم الشافعي ومن معنى قوله ، مع علمه نهيه عن تقليده وتقليد غيره . انتهى . فعلى التأويل الأول : يقلد ، وعلى الثاني : لا يقلد فتواه .

                                                      وأما دعوى القاضي الاتفاق على أن الرسول لا يقلد فكان الحامل له على ذلك اعتقاده أن المقلد [ ص: 320 ] شاك فيمن يقلده ، وليس ذلك عندنا بل المقلد لا شك عنده ، لوثوقه بالمقلد الذي ألقى بتقاليده إليه ، ولما تقارب الخلاف زعم إمام الحرمين أنه لفظي ، ولما اعتقد القاضي أن اتباع العامي تقليد ، وأن المقلد شاك مع التقليد ، تبعا للشيخ أبي الحسن الأشعري ، وهي مسألة ( إيمان المقلد ) التي تعزى لأبي الحسن ، ولذلك أطلقنا الكلام في بيان معنى التقليد ، ليخرج منه هذه المسألة . ومن ثم عقد القاضي في التقريب " بابا في إمكان التقليد في جملة أصوله وفروعه . ثم لما فرغ عقد بابا في أنه لا يجوز التقليد في فروع الأحكام ، كما لا يجوز في أصولها .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية