الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( 27 ) )

قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : " ولو ترى " يا محمد ، هؤلاء العادلين بربهم الأصنام والأوثان ، الجاحدين نبوتك ، الذين وصفت لك صفتهم " إذ وقفوا " يقول : إذ حبسوا " على النار " يعني : في النار - فوضعت " على " موضع " في " كما قال : واتبعوا ما تتلوالشياطين على ملك سليمان [ سورة البقرة : 102 ] [ ص: 317 ] ، بمعنى في ملك سليمان .

وقيل : " ولو ترى إذ وقفوا " ومعناه : إذا وقفوا لما وصفنا قبل فيما مضى : أن العرب قد تضع " إذ " مكان " إذا " و " إذا " مكان " إذ " وإن كان حظ " إذ " أن تصاحب من الأخبار ما قد وجد فقضي ، وحظ " إذا " أن تصاحب من الأخبار ما لم يوجد ، ولكن ذلك كما قال الراجز ، وهو أبو النجم :


مد لنا في عمره رب طها ثم جزاه الله عنا إذ جزى

    جنات عدن في العلالي العلى



فقال : " ثم جزاه الله عنا إذ جزى " فوضع " إذ " مكان " إذا " .

وقيل : " وقفوا " ولم يقل : " أوقفوا " لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب . يقال : " وقفت الدابة وغيرها " بغير ألف ، إذا حبستها . وكذلك : " وقفت الأرض " إذا جعلتها صدقة حبيسا ، بغير ألف ، وقد : -

13179 - حدثني الحارث ، عن أبي عبيد قال : أخبرني اليزيدي والأصمعي ، كلاهما ، عن أبي عمرو قال : ما سمعت أحدا من العرب يقول : " أوقفت الشيء " بالألف . قال : إلا أني لو رأيت رجلا بمكان فقلت : " ما أوقفك هاهنا ؟ " بالألف ، لرأيته حسنا . [ ص: 318 ]

" فقالوا يا ليتنا نرد " يقول : فقال هؤلاء المشركون بربهم ، إذ حبسوا في النار : " يا ليتنا نرد " إلى الدنيا حتى نتوب ونراجع طاعة الله " ولا نكذب بآيات ربنا " يقول : ولا نكذب بحجج ربنا ولا نجحدها " ونكون من المؤمنين " يقول : ونكون من المصدقين بالله وحججه ورسله ، متبعي أمره ونهيه .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والعراقيين : ( يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) ، بمعنى : يا ليتنا نرد ، ولسنا نكذب بآيات ربنا ، ولكنا نكون من المؤمنين .

وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفة : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ، بمعنى : يا ليتنا نرد ، وأن لا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين . وتأولوا في ذلك شيئا : -

13180 - حدثنيه أحمد بن يوسف قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا حجاج ، عن هارون قال : في حرف ابن مسعود : ( يا ليتنا نرد فلا نكذب ) بالفاء .

وذكر عن بعض قرأة أهل الشام ، أنه قرأ ذلك : ( يا ليتنا نرد ولا نكذب ) بالرفع ( ونكون ) بالنصب ، كأنه وجه تأويله إلى أنهم تمنوا الرد ، وأن يكونوا من المؤمنين ، وأخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا .

واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبا ومرفوعا .

فقال بعض نحويي البصرة : " ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " نصب ، لأنه جواب للتمني ، وما بعد " الواو " كما بعد " الفاء " . قال : وإن شئت رفعت وجعلته على غير التمني ، كأنهم قالوا : ولا نكذب والله بآيات ربنا ، ونكون [ ص: 319 ] والله من المؤمنين . هذا إذا كان على ذا الوجه ، كان منقطعا من الأول . قال : والرفع وجه الكلام ، لأنه إذا نصب جعلها " واو " عطف . فإذا جعلها " واو " عطف ، فكأنهم قد تمنوا أن لا يكذبوا ، وأن يكونوا من المؤمنين . قال : وهذا والله أعلم ، لا يكون ، لأنهم لم يتمنوا هذا ، إنما تمنوا الرد ، وأخبروا أنهم لا يكذبون ، ويكونون من المؤمنين .

وكان بعض نحويي الكوفة يقول : لو نصب " نكذب " و " نكون " على الجواب بالواو ، لكان صوابا . قال : والعرب تجيب ب " الواو " و " ثم " كما تجيب بالفاء . يقولون : " ليت لي مالا فأعطيك " " وليت لي مالا وأعطيك " و " ثم أعطيك " . قال : وقد تكون نصبا على الصرف ، كقولك : " لا يسعني شيء ويعجز عنك .

وقال آخر منهم : لا أحب النصب في هذا ، لأنه ليس بتمن منهم ، إنما هو خبر ، أخبروا به عن أنفسهم . ألا ترى أن الله - تعالى ذكره - قد كذبهم فقال : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ؟ وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمني .

وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب " بالواو " وبحرف غير " الفاء " . وكان يقول : إنما " الواو " موضع حال ، لا يسعني شيء ويضيق عنك " أي : وهو يضيق عنك . قال : وكذلك الصرف في جميع العربية . قال : وأما " الفاء " فجواب جزاء : " ما قمت فنأتيك " أي : لو قمت لأتيناك . قال : فهذا حكم الصرف و " الفاء " . قال : وأما قوله : " ولا نكذب " و " نكون " فإنما جاز ، لأنهم قالوا : " يا ليتنا نرد " في غير الحال التي وقفنا فيها على النار . فكان وقفهم في تلك ، [ ص: 320 ] فتمنوا أن لا يكونوا وقفوا في تلك الحال .

قال أبو جعفر : وكأن معنى صاحب هذه المقالة في قوله هذا : ولو ترى إذ وقفوا على النار ، فقالوا : قد وقفنا عليها مكذبين بآيات ربنا كفارا ، فيا ليتنا نرد إليها فنوقف عليها غير مكذبين بآيات ربنا ولا كفارا .

وهذا تأويل يدفعه ظاهر التنزيل ، وذلك قول الله - تعالى ذكره - : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ، فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة ، والتكذيب لا يقع في التمني . ولكن صاحب هذه المقالة أظن به أنه لم يتدبر التأويل ، ولزم سنن العربية .

قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك : ( يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) بالرفع في كليهما ، بمعنى : يا ليتنا نرد ، ولسنا نكذب بآيات ربنا إن رددنا ، ولكنا نكون من المؤمنين على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردوا إلى الدنيا ، لا على التمني منهم أن لا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين . لأن الله - تعالى ذكره - قد أخبر عنهم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وأنهم كذبة في قيلهم ذلك . ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني ، لاستحال تكذيبهم فيه ، لأن التمني لا يكذب ، وإنما يكون التصديق والتكذيب في الأخبار .

وأما النصب في ذلك ، فإني أظن بقارئه أنه توخى تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه ، وذلك قراءته ذلك : ( يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) ، على وجه جواب التمني بالفاء . وهو إذا قرئ بالفاء [ ص: 321 ] كذلك ، لا شك في صحة إعرابه . ومعناه في ذلك : أن تأويله إذا قرئ كذلك : لو أنا رددنا إلى الدنيا ما كذبنا بآيات ربنا ، ولكنا من المؤمنين . فإن يكن الذي حكى من حكى عن العرب من السماع منهم الجواب بالواو ، و " ثم " كهيئة الجواب بالفاء ، صحيحا ، فلا شك في صحة قراءة من قرأ ذلك : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون نصبا على جواب التمني بالواو ، على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء . وإلا فإن القراءة بذلك بعيدة المعنى من تأويل التنزيل . ولست أعلم سماع ذلك من العرب صحيحا ، بل المعروف من كلامها : الجواب بالفاء ، والصرف بالواو .

التالي السابق


الخدمات العلمية