الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما ذكر عند نشوز المرأة أن الزوج يعظها ثم يهجرها ثم يضربها ، بين أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم فقال : ( وإن خفتم شقاق بينهما ) إلى آخر الآية وههنا مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال ابن عباس : ( خفتم ) أي علمتم . قال : وهذا بخلاف قوله : ( واللاتي تخافون نشوزهن ) فإن ذلك محمول على الظن ، والفرق بين الموضعين أن في الابتداء يظهر له أمارات النشوز ، فعند ذلك يحصل الخوف ، وأما بعد الوعظ والهجر والضرب لما أصرت على النشوز ، فقد حصل العلم بكونها ناشزة ، فوجب حمل الخوف ههنا على العلم . طعن الزجاج فيه فقال : ( خفتم ) ههنا بمعنى أيقنتم خطأ ، فإنا لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم نحتج إلى الحكمين .

                                                                                                                                                                                                                                            وأجاب سائر المفسرين بأن وجود الشقاق وإن كان معلوما ، إلا أنا لا نعلم أن ذلك الشقاق صدر عن هذا أو عن ذاك ، فالحاجة إلى الحكمين لمعرفة هذا المعنى . ويمكن أن يقال : وجود الشقاق في الحال معلوم ، ومثل هذا لا يحصل منه خوف ، إنما الخوف في أنه هل يبقى ذلك الشقاق أم لا ؟ فالفائدة في بعث [ ص: 75 ] الحكمين ليست إزالة الشقاق الثابت في الحال ، فإن ذلك محال ، بل الفائدة إزالة ذلك الشقاق في المستقبل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : للشقاق تأويلان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن كل واحد منهما يفعل ما يشق على صاحبه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( شقاق بينهما ) معناه : شقاقا بينهما ، إلا أنه أضيف المصدر إلى الظرف ، وإضافة المصادر إلى الظروف جائزة ؛ لحصولها فيها ، يقال : يعجبني صوم يوم عرفة ، وقال تعالى : ( بل مكر الليل والنهار ) [ سبأ : 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : المخاطب بقوله : ( فابعثوا حكما من أهله ) من هو ؟ فيه خلاف : قال بعضهم إنه هو الإمام أو من يلي من قبله ، وذلك لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه ، وقال آخرون : المراد كل واحد من صالحي الأمة وذلك لأن قوله : ( خفتم ) خطاب للجمع ، وليس حمله على البعض أولى من حمله على البقية ، فوجب حمله على الكل ، فعلى هذا يجب أن يكون قوله : ( وإن خفتم ) خطابا لجميع المؤمنين . ثم قال ( فابعثوا ) فوجب أن يكون هذا أمرا لآحاد الأمة بهذا المعنى ، فثبت أنه سواء وجد الإمام أو لم يوجد ، فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها للإصلاح . وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر ، ولكل أحد أن يقوم به .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : إذا وقع الشقاق بينهما ، فذاك الشقاق إما أن يكون منهما أو منه أو منها ، أو يشكل ، فإن كان منها فهو النشوز وقد ذكرنا حكمه ، وإن كان منه ، فإن كان قد فعل فعلا حلالا مثل التزوج بامرأة أخرى ، أو تسرى بجارية ، عرفت المرأة أن ذلك مباح ، ونهيت عن الشقاق ، فإن قبلت وإلا كان نشوزا ، وإن كان بظلم من جهته أمره الحاكم بالواجب ، وإن كان منهما أو كان الأمر متشابها ، فالقول أيضا ما قلناه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : المستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين ، والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها ؛ لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب ، وأشد طلبا للصلاح ، فإن كانا أجنبيين جاز . وفائدة الحكمين أن يخلو كل واحد منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ، ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح ، أو في المفارقة ، ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من إيقاع طلاق أو خلع .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية