الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا )

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي : " بالبخل " بفتح الباء والخاء ، وفي الحديد مثله ، وهي لغة الأنصار ، والباقون " بالبخل " بضم الباء والخاء وهي اللغة العالية .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الذين يبخلون : بدل من قوله : ( من كان مختالا فخورا ) والمعنى : إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب الذين يبخلون ، أو نصب على الذم . ويجوز أن يكون رفعا على الذم ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف ، كأنه قيل : الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 80 ] المسألة الثالثة : قال الواحدي : البخل فيه أربع لغات : البخل ، مثل القفل ، والبخل مثل الكرم ، والبخل مثل الفقر ، والبخل بضمتين . ذكره المبرد ، وهو في كلام العرب عبارة عن منع الإحسان ، وفي الشريعة منع الواجب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال ابن عباس : إنهم اليهود ، بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمد - عليه الصلاة والسلام - وصفته في التوراة ، وأمروا قومهم أيضا بالكتمان ( ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ) يعني من العلم بما في كتابهم من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ( وأعتدنا ) في الآخرة لليهود ( عذابا مهينا ) واحتج من نصر هذا القول : بأن ذكر الكافر في آخر الآية يدل على أن المراد بأولها الكافر . وقال آخرون : المراد منه البخل بالمال ؛ لأنه تعالى ذكره عقيب الآية التي أوجب فيها رعاية حقوق الناس بالمال ، فإنه قال : ( وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل ) ومعلوم أن الإحسان إلى هؤلاء إنما يكون بالمال ، ثم ذم المعرضين عن هذا الإحسان ، فقال : ( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) ثم عطف عليه ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) فوجب أن يكون هذا البخل بخلا متعلقا بما قبله ، وما ذاك إلا البخل بالمال .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : أنه عام في البخل بالعلم والدين ، وفي البخل بالمال ؛ لأن اللفظ عام ، والكل مذموم ، فوجب كون اللفظ متناولا للكل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : أنه تعالى ذكر في هذه الآية من الأحوال المذمومة ثلاثا :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : كون الإنسان بخيلا ، وهو المراد بقوله : ( الذين يبخلون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : كونهم آمرين لغيرهم بالبخل ، وهذا هو النهاية في حب البخل ، وهو المراد بقوله : ( ويأمرون الناس بالبخل ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله : ( ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ) فيوهمون الفقر مع الغنى ، والإعسار مع اليسار ، والعجز مع الإمكان ، ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر ، مثل أن يظهر الشكاية عن الله تعالى ، ولا يرضى بالقضاء والقدر ، وهذا ينتهي إلى حد الكفر ؛ فلذلك قال : ( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) ومن قال : الآية مخصوصة باليهود ، فكلامه في هذا الموضع ظاهر ؛ لأن من كتم الدين والنبوة فهو كافر ، ويمكن أيضا أن يكون المراد من هذا الكافر ، من يكون كافرا بالنعمة ، لا من يكون كافرا بالدين والشرع .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية