الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله : ( وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه ، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ، ليس فيه ناقض ، ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا محول ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه ) .

ش : هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات ، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء . فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها ، على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم . فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إيجادها إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها . قال تعالى : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ الملك : 14 ] . وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالما في الأزل ، وقالوا : إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا ! تعالى الله عما يقولون علوا [ ص: 354 ] كبيرا . قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : ناظروا القدرية بالعلم ، فإن أقروا به خصموا ، وإن أنكروا كفروا . فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه ، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه ، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة ، وقد علم الله ذلك منه ، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه .

وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادرا على تغيير علم الله ، لأن الله علم أنه لا يفعل ، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله

قيل : هذه مغالطة ، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم ، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل ، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه ، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه ، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع ، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع . ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر ، وعلم الله مطابق للواقع ، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم ، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم ، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم ، [ بل هو قادر على فعل لم يقع ، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع ، لا أنه لا يقع .

وإذا قيل : فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع ، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم ؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه ، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه ، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه . وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه ! وهو فرض محال . وذلك بمنزلة من يقول : افرض وقوعه مع عدم وقوعه ! وهو جمع بين النقيضين .

[ ص: 355 ] فإن قيل : فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالا لم يكن مقدورا ؟ قيل : لفظ المحال مجمل ، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه ، بل هو ممكن مقدور مستطاع ، ولكن إذا وقع كان الله عالما بأنه سيقع ، وإذا لم يقع كان عالما بأنه لا يقع ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه . وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال !

ومما يلزم هؤلاء : أن لا يبقى أحد قادرا على شيء ، لا الرب ، ولا الخلق ، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه ، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله ، فكذلك ما قدره من أفعال عباده . والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية