الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد (11) :

فظاهره يقتضي أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد، ذكرا كان أو أنثى، فيقتضي ذلك إلى إنه إذا كان الولد بنتا فلها النصف، ولا تستحق أكثر من النصف لقوله: وإن كانت واحدة فلها النصف .

فوجب بحكم الظاهر أن يعطى الأب السدس لقوله: ولأبويه لكل واحد منهما السدس ، ويبقى السدس يستحقه الأب بحكم التعصيب.

[ ص: 345 ] فاجتمع للأب الاستحقاق من جهتين: التعصيب والفرض.

وإن كان الولد ذكرا، فللأبوين السدسان بحكم النص، والباقي للابن لأنه أقرب العصبات من الأب، فخرجت منه مسألة البنت والأبوين، وما ذكره الفرضيون من الجمع للأب بين الفرض والتعصيب.

وقال عز وجل: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ، ولم يذكر نصيب الأب، فاقتضى ظاهر اللفظ أن للأب الثلثين، إذ ليس هناك مستحق غيره، وقد أثبت لهما أولا، فاقتضى ظاهر اللفظ المساواة لو اقتصر على قوله: وورثه أبواه ، دون تفصيل نصيب الأم، فلما ذكر نصيب الأم، دل على أن للأب الثلثين، وهو الباقي بحكم العصوبة، وبين الله تعالى ميراث الأم مع الأب، وفرض لغيرها من الورثة عند الانفراد مثل البنت والأخت وغيرهما من أصحاب الفروض، كالزوج والزوجة.

والحكمة فيه: أنه عز وجل أراد أن يبين حجبها بمن لا يرث في قوله: ولأبويه إلى قوله: فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، فلو ذكر ميراثها منفردة، لاحتمل أنها لا يحجبها من لا يرث مثل الإخوة مع الأب، فأزال هذا الإشكال، وأفاد هذه الفائدة، حتى لا يتوهم أن الذي لا يرث بحاجب الأشخاص، كالإخوة الذين يحجبون بالأوصاف مثل القتل والرق والكفر، فهذا بيان هذا المعنى.

ثم قال تعالى: فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، وقد حجبها [ ص: 346 ] جماهير العلماء بأخوين، وانفرد ابن عباس، فاعتبر في حجبها من الثلث إلى السدس، ولا شك أن ظاهر قوله:فإن كان له إخوة ، يقتضي أن ما دون ذلك وضعت العرب له اسم التثنية، وقد غايرت العرب بين المنزلتين، أعني منزلة التثنية والجمع في ظاهر إطلاق اللفظ.

وليس الكلام في أن معنى الجمع هل يتحقق في الاثنين أم لا، فإن المعنى بذلك أن لفظ الجمع المركب من الجيم والميم والعين حقيقة في الاثنين، فإنه مشتق من الاجتماع والضم، ويتحقق ذلك في الاثنتين تحققه في الثلاثة، وإنما الكلام في لفظ الإخوة هل يظهر إطلاقه على موضع الأخوان؟

ويجوز أن تفترق منازل الجموع في إطلاق ألفاظ، مثل قول القائل عشرة دراهم ومائة درهم، وقد لا تفترق، فيكون التعبير عن الاثنين مثل التعبير عن الثلاثة، من غير أن ترتيب المنازل من التثنية والواحد أن الجمع مثل قولك: قمنا لنفسه وأخرى معه، ولنفسه وآخرين معه من غير فصل.

فإذا تقرر ذلك، فليس في قول القائل إن لفظ الجمع حقيقة في الاثنين أخذا من موضع الاشتقاق وهو الجمع، جواب عن احتجاج ابن عباس بظاهر كتاب الله عز وجل في إطلاق الإخوة في موضع الأخوين، وهذا بين.

نعم، قد يطلق لفظ الإخوة على الأخوين معدولا به عن الأصل، كما يطلق لفظ الجمع في موضع الواحد، ويعبر عن الواحد بلفظ الاثنين [ ص: 347 ] مثل قوله: نحن قسمنا ، والتعبير عن الواحد بلفظ الاثنين كقوله تعالى: ألقيا في جهنم كل وهو يريد الواحد، إلا أن كل ذلك خلاف الأصل والوضع، وليس الكلام فيه.

وليس يبقى بعد النزول عن الظاهر إلا أن يقال: النص وإن ورد في الثلاث، فلا يمتنع الاثنتين به بطريق الاعتبار.

ووجه الاعتبار أن الله تعالى ألحق الاثنين بالثلاث فيما يتعلق بميراث الإخوة في استحقاق الثلثين، وفيما يتعلق بميراث البنات، وغاير بين الواحدة والثنتين، فيدل ذلك على أن حكم الاثنتين أقرب إلى الثلاث منه إلى الواحد.

ولابن عباس أن يعترض على هذا الكلام من أوجه:

أن الله تعالى شرط في حجب الأمهات عددا فقال: فإن كان له إخوة ، وذلك يقتضي التقييد الذي لا يجوز تركه وإلغاؤه، فإذا حصل بالاثنين بطل فحوى الكلام في التقييد.

ولو قال للواحد: فإن كان له أربعة إخوة فلأمه السدس، كان الكلام ركيكا، وأن عدد الأربعة لا يتعلق به حكم، فالتقييد بالثلاث مثل ذلك على رأي من لا يجعل لهذا القيد أثرا.

الوجه الثاني: أن الأصل في حق كل مستحق للميراث، أن لا يسقط ولا ينتقض إلا بتوقيف قاطع، والأم مستحقة بقرابتها، فما لم يثبت قاطع في حجبها لا يسقط حقها، فإذا شهد الظاهر للثلاثة وجب الرجوع إلى الأصل، فكان الذي لا يحجب الأم بالاثنتين متعلقا بالظاهر، ومتعلقا بالأصل في ميراث الأم.

[ ص: 348 ] الوجه الثالث: أن مساواة الأخوين للثلاث في حكم من أحكام الميراث، لا يقتضي مساواتهما لهم في كل حكم، فإن الزوجة الواحدة تساوي للعدد في الميراث، والجدة الواحدة تساوي الجدات في نصيب الجدات، وبنت الابن مع البنت الواحدة حكمها حكم الجماعة، فإنه لا يفرق بين بنت الابن الواحدة وبين الجماعة من بنات الابن، وكذلك في الأخوات من الأب مع الأخت من الأب والأم، فليس لذلك قانون مطرد.

وغاية الأمر فيه أن يقال في حق الإخوة والأخوات وما في منزلتهم الأمر كذلك.

وإذا لم يختلف مقدار ميراثهم في الاثنتين والجماعة، لم يختلف مقدار قولهم في الحجب في حق الاثنتين والعدد، وفي حق الزوجان لا يختلف ميراثهن بالواحدة والعدد، إلا أنه لا يظهر حكم ميراثهن في حجب حرمان أو إسقاط، فكأن الشرع يقول لنا، كمال قوة الإخوة في الميراث، يقتضي حجب الأم، الثلث إلى السدس، وكمال قوتهم بكمال حقوقهم في الميراث، وفي ذلك يستوي الاثنان والجماعة.

ولما كانت قوة قرابة أولاد الميت وأولاد أولاده، أوفى من قوة قرابة أولاد أب الميت، لا جرم أصل ميراث الأولاد دون كماله كان كافيا في حجب الأم، مثل البنت الواحدة وبنت الابن الواحدة، وإن كان ميراث الثنتين أوفى.

وإنما يظهر أثر ذلك في معنى آخر، وهو أن قوة قرابتي الأولاد إذا لم تكف في حرمان أولاد الابن، فكمال قوة بنات الصلب في الميراث تكفي في إسقاط أولاد الابن.

[ ص: 349 ] وكذلك كمال ميراث الأخوات من الأب والأم كاف في إسقاط أولاد الأب فقط، فإذا قلنا لا يقع حجب الأم بالأخت الواحدة، وإنما يقع بكمال قوتهم من الميراث، فذلك يقتضي التسوية بين الاثنين والثلاث، وهذا بين ظاهر، وهو نظر دقيق في نصرة قول جماهير العلماء .

ويمكن أن يقال إن العدد الكثير من الصحابة لم يتفقوا على مخالفة الظاهر إلا بتوقيف.

أما هذا المعنى الذي قلناه فدقيق، لبعد اجتماع الجم الغفير على ذلك، وترك الظاهر بسببه، فيظهر تقدير توقيف، وإن لم ينقل، يعلم أنهم به تركوا الظاهر، والعلم عند الله.

فهذا وجه منقول عن كافة الصحابة في مخالفة الظاهر.

الوجه الآخر: ما نقل عن قتادة أنه قال: إنما يحجب الإخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب، لأنه يقوم بنكاحهم، ويلزمه المؤن بسببهم لتحقيق إربهم، فأما الإخوة من الأم، فخارجون عن ذلك ولا يحجبون مع الأب، فخالف به مطلق قوله تعالى: فإن كان له إخوة فلأمه السدس .

وليس لقوله هذا وجه، فإن الذي يلتزم من المؤن ليس يلتزمه عوضا عن الميراث، بل يلتزمه بحكم الأبوة، ولا تعلق لذلك بالميراث، فلو [ ص: 350 ] كان الابن كافرا، فعلى الأب نفقته أيضا ولا يحجب الأم.

الوجه الثالث في مخالفة الظاهر: ما نقل عن ابن عباس، أن الإخوة مع الأب لا يحجبون الأم، إلا عن قدر يأخذونه هم، فإذا فرضنا أخوين وأبوين، فللأم السدس، وللأخوين السدس الذي حجبت عنه الأم، والباقي للأب، وذلك خلاف الظاهر، فإنه تعالى قال: وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس .

وتقديره: فإن كان له إخوة مع الأب، ويبعد أن يكون للأخوين مع الأب ميراث.

وهو يقول: ليس ذلك ميراثا من الأخ، وإنما الأم قد حجبت بالإخوة، فيرجع إليهم لا إلى الأب، فيقال: فإذا حجبوا بالأب، فليس لهم من الميراث شيء، ولا لها الثلث، فيقول الأب: أنا أسقطهم من الميراث، وهم أسقطوا، فيجعل كأن السدس لم يكن لك، فأنا المستحق لذلك بحكم العصوبة، وهذا في غاية الوضوح، فهذه هي المذاهب المنتزعة من الظاهر.

وصار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس، لأن كتاب الله في الإخوة، وليست قوة ميراث الإناث مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الإلحاق.

ومقتضى أقوالهم أن لا يدخلن مع الإخوة في لفظ الأخوة، فإن لفظ [ ص: 351 ] الإخوة بمطلقه لا يتناول الأخوات (مع البنات) كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات، وذلك يقتضي أن لا تحجب الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس، وهو خلاف إجماع المسلمين، وإذا كن مرادات بالآية مع الإخوة، كن مرادات على الانفراد.

ولو كان ذلك لقوة الذكورة، لاستوى الأخ الواحد والعدد، لأن ميراث الإخوة يستوي فيه الواحد والعدد، فهذا تمام المذاهب في الأوجه المنتزعة من الآية.

بقيت ها هنا مسألة واحدة دقيقة، وهي أنه إذا كان في الفريضة زوج وأم، وأخ وأخت لأم، فلا خلاف بين الصحابة أن للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخ وللأخت من الأم الثلث، وقد تمت الفريضة.

أما عامة الصحابة، فلأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس، فاستقام لهم ذلك ها هنا.

وأما ابن عباس، فلأنهم لا يرى العول، ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة، وهو لا يرى ذلك، وإذا قيل له: فلم كانت الأم بالنقصان أولى من الأخوين؟ لم يجد كلاما ظاهرا عليه.

وفيه دليل ظاهر على ما قاله أهل الإجماع من العلماء، وتخطئة ابن عباس في قوله.

ثم أبان الله تعالى ميراث الزوج والزوجة وحجبها بالولد من الربع إلى الثمن، ومن النصف إلى الربع، وميراثهما على نسبة ميراث العصبات: [ ص: 352 ] للذكر مثل حظ الأنثيين ، إلا أن ميراث العصبات لا يتعذر، وهذا مقدر، وميراث العصبات يشترك فيه الذكور والإناث، وها هنا لا يتصور الشركة.

إذا عرفنا ذلك، فاعلم أن كل من يحجبه الابن يحجبه ابن الابن بالإجماع من الزوج والزوجة والإخوة، وذلك إما أن يدل على أن اسم الولد يتناول ابن الابن، أو يتلقى من الإجماع.

وإذا تبين ذلك، فقول الله عز وجل في ميراث الأزواج والأمهات إن لم يكن لكم ولد مطلق، ولكن جمهور العلماء خصوا الحجب بمن يرث، فأما من لا يرث كالكافر والمملوك، فلا يحجب ولا يرث.

وصار ابن مسعود أن من لا يرث من هؤلاء يحجب حجب النقصان، ولا يحجب حجب الحرمان، وذكرنا فرقة بين الحجبين في مسائل الروايا، وهو فرق حسن، وصورته أن الأب الكافر لا يحجب عنده ابن نفسه عن ميراث جده. وأنه بمنزلة المعدوم في ذلك، فاعتبر أصحابنا حجب النقصان به، وذكرنا فرقة بينهما.

وكافة العلماء يقولون إن الله تعالى إنما شرع الحجب لأن الذي ينقص من نصيبه يرجع إلى الحاجب في الأغلب، فقوة ميراثه تقتضي ذلك، وأما الكافر فلا يتصور هذا في حقه، فكان كالمعدوم، وسره يرجع إلى أن الوراثة خلافة، إلا أن بعض الخلفاء أولى ببعض، فمن حجب حجب [ ص: 353 ] الحرمان، أخذ نصيب المحروم، ومن حجب حجب النقصان، أخذ نصيبه غالبا، وهذا بين.

لما ذكر الله الولد، وأجمع العلماء على أن ابن الابن مثل الابن، فعرفنا به أن المعتبر الميراث لا اسم الولد، وإذا تبين ذلك، فلا خلاف في الابن والبنت وابن الابن وبنت الابن، أن الميراث بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين لا بحكم الظاهر، فإن مطلق لفظ أولاده لا يتناول أولاد أولاده، وولد ولده ليس ولده تحقيقا، فإنه لو كان اسم الولد حقيقة فيه بالإضافة إلى الجد، ما كان حقيقة بالإضافة إلى الأب، فإن الجهة الواحدة إذا كان الاسم حقيقة فيها، لم يكن حقيقة في جهة أخرى تغايرها من طريق العموم، وإنما يكون على وجه الاستقراء بذلك الاشتراك، وذلك يقتضي الإجمال عند الإطلاق، وإذ تبين ذلك وعرف، لم يدخل ولد الابن إلا بطريق الإجماع، فإذا ثبت ذلك، فإذا ترك بنتا وابنة ابن، فللبنت النصف بالتسمية، ولابنة الابن السدس، وما بقي للعصبة، فاستحقاق ابنة الابن للسدس ليس مأخوذا من التسمية، وإنما أخذ من الإجماع.

فإذا ترك اثنتين وابنة ابن وابن ابن ابن فكمثل.

وقال ابن مسعود: إذا أخذ البنات الثلثين، فليس لبنات الابن شيء، وإن كان معهن ذكر، وكذلك في الأخوات من الأب ذكر، درجتهن بعد فرض الأخوات من الأب والأم الثلثين، وأنه لو كان بدلهن عم وابن عم، كان لا تأخذ ابنة الابن شيئا، فكذلك مع الولد الذكر.

وأما جماهير العلماء فإنهم يقولون إن بنات الابن لا يأخذن فرض البنات، وإنما يأخذن بجهة أخرى وهي جهة العصب، وإنما كان يمتنع [ ص: 354 ] ذلك لو أخذن في هذا الوقت بذلك الفرض الذي أخذ به غيرهن من البنات، فأما إذا أخذن بوجه غير ذلك، فليس هو من أولئك في شيء، فيجعل ما بقي من المال بعد الثلثين كأنه جملة مال لا فريضة فيه مسماة لأحد، فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين.

ونشأ منه أنا إذا جعلنا هذا المال كأنه لا فريضة فيه لأحد أصلا، فإذا كان في الفريضة بنات ابن وذكر أسفل منهن، فلا بد وأن يعصبهن، فإنه لو لم يعصبهن أخذن بالفرض، ونحن قدرنا المال كأن لا فرض فيه أصلا بحال، فإذا قدرنا ذلك، فلو فضلت العليا من بنات البنين على من هو أسفل منها من بني البنين في الثلث الذي يبقى، لم تكن الفريضة قد مضت.

فإن قيل: كيف جاز أن ترث بنت الابن بسبب ابن الابن، ولولا مكانه لم يرث شيئا؟ قيل: كما أنا إذا فرضنا ابنا وعشر بنات أخذن أكثر من الثلثين، ولو كن منفردات لم يأخذن، فصار لهن بسبب التعصيب أكثر مما لهن عند الانفراد، وربما كان التعصيب سببا للسقوط في بعض المواضع.

فإن قيل: فإذا فرض اثنتين وبنت ابن وأخت فلم لا يجعل الثلث الباقي بعد فرض البنتين لبنت الابن، وتجعل عصبة كما جعلتم الأخت عصبة، فإن بنوة الميت أولى بالميراث من بني أبي الميت، وعندكم أن الباقي بعد فرض البنتين للأخت، ولم لا يجعل لها العصوبة ها هنا على قياس حالها عند الانفراد كما جعل للأخت المعصوبة؟

ووجه الجواب عنه أنا بإعطائنا بنات الصلب الثلثين، قضينا حق الإناث من أولاد الصلب من الميراث، فلو أخذت بنت الابن لأخذت ببنوة الميت.

[ ص: 355 ] فإن قلتم: الذي أخذ به البنات بالفرض، فهلا أثبتم العصوبة ها هنا وهي جهة أخرى؟

فالجواب عنه أن العصوبة إنما تثبت إذا كانت الجهة في الأصل مخالفة لجهة ميراث البنت، فيعدل من الفرض إلى العصوبة لغرض حفظ الجهة، أما إذا كانت الجهة واحدة وقد قضى من الميراث حقها، فلا وجه لإثبات الميراث لها ثابتا بجهة العصوبة.

نعم إذا كان هناك ابن ابن فليس ميراث الذكر من جنس ميراث الإناث، وكذلك لو كانت ابنة وابن ابن، فالباقي لابن الابن، لا بطريق أنه تكملة الثلثين، ولو كان بدل ذلك ابنة ابن، فلها تكملة الثلثين، فيدل ذلك على اختلاف الجهة.

ويدل على ذلك أنا إذا فرضنا أختا لأب وأم وأختا لأب، فلولد الأب السدس تكملة الثلثين، ولو كان أولاد الأب والأم اثنتين، فلا شيء لأولاد الأب إلا أن يكون معهن ذكر يعصب، وهو نظير مسألتنا، سوى أن الأسفل في الدرجة لا يعصب الأخوات للأم لوجه آخر، فهذا تمام البيان في ذلك.

وقال ابن مسعود: في البنت وبنت الابن وابن الابن، أن للبنت النصف، والباقي بين الذكر والأنثى على التفاوت، كفرائض أولاد الصلب، إلا أنه قال: ما لم يزد نصيب بنات الابن على السدس، فلا نعطيهن أكثر من السدس، وجعل لهن الأضر من المقاسمة، أو سدس جميع المال.

فلم يعتبر الفرض على حدة هذه الحالة، ولا التعصيب على حدة، لكنه اعتبر القسمة في منع الزيادة على القسمة، فاعتبر المقاسمة في النقصان، وهو بعيد لا وجه له.

[ ص: 356 ] وإذا نحن بينا ميراث الأمهات والزوجات والأزواج ومن يحجبهن فيتعلق بما إليه، انتهى الكلام أن الله تعالى قال: وورثه أبواه فلأمه الثلث ، فاقتضى ذلك أن للأم الثلث والباقي للأب، إذا لم يكن ثم إخوة ولا أولاد ميت، فعلى هذا قال ابن عباس في زوج وأبوين: إن للأم الثلث الكامل، فيكون ميراثها، زائدا على ميراث الأب.

وكذلك قال في زوجة وأبوين.

وتابعه ابن سيرين في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين، لئلا يكون تفضيلا للأم على الأب.

واعلم أن الاستدلال بالقرآن في مخالفة ابن عباس ممكن هين، وذلك أن الله تعالى جعل الميراث بين الأبوين أثلاثا، مثل ما بين الابن والبنت في قوله: للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل بين الأخ والأخت أثلاثا، فإذا سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما، وأخذا نصيبهما، كان الباقي بين الابن والبنتين على ما كان قبل دخولهما، وكذلك بين الأخ والأخت، يجب أن يكون على هذه النسبة، فاعلم أن ذلك إنما يكون إذا كان الابن يأخذ بالعصوبة، فأما إذا كان يأخذ بالفرض فهو والأم سواء، فإنه إذا كان في الفرض أبوان وابن، فللأبوين السدسان والباقي للابن، لأنه لا عصوبة للأب أصلا مع الابن، وإنما يأخذ بالفرض، فكان الذكر والأنثى في هذا المعنى سواء كأولاد الأم.

وهذا يرد عليه الزوج والزوجة، لأنه جعل بينهما على نسبة التفاوت، مع أنهما يأخذان بالفرض المحض، وعلى أن الأب إذا كان يأخذ بالتعصيب في زوج وأبوين، فالعصب مانع، فلا نظر إلى التفصيل، [ ص: 357 ] وغاية ما يقال فيه أن عصوبة الأب غير متمحضة، بل هي عصوبة مشوبة بجهة الولادة، ولذلك يجمع له بين الفرض والتعصيب، فيجوز أن يكون جهة العصوبة بالابن الذي هو أولى العصبات، وأما تعطيل جهة الولادة فلا، وإذا لم يعطل جهة الولادة حال كونه عصبة، ولم تتمحض عصوبته، تعلق به على كل حال أن لا تفضل الأم على الأب مع تساويهما في الولاية، بل يراعى في حق الأب جهة الولادة وجهة العصوبة جميعا، وذلك يقتضي تفضيله عليها، فهذا منتهى الممكن في نصرة مذهب جماهير العلماء.

ونظر ابن عباس جلي جدا، وينشأ منه أن الجم الغفير إذا خالفوا النظر الجلي فلا يخالفون إلا بالتوقيف.

ويمكن أن يقال في مقابلته: وابن عباس إذ أظهر الخلاف، كان من الواجب أن يحتج عليه بذلك التوقيف، ولم يثبت ذلك، فهو مشكل والعلم عند الله تعالى.

وحاصل نظر الجمهور يرجع إلى أنه إذا وجب أن يبدأ بالزوجة أو الزوج، ويعطي كل واحد منهما نصيبه، فزال الفرض المنصوص لهما بالزوج والزوجة، لأن المنصوص لهما إذا لم يكن زوج ولا زوجة، فإذا أعطيناهما حقهما نظرنا إلى ما يبقى بعد ذلك، فيجعل بمنزلة جملة المال الذي لا فرض فيه لأحد الأبوين، فيقسم بينهما، فيعطي الأم ثلثه، ويعطي الأب ما بقي، لأن النقيصة لما دخلت عليهما من قبل الزوج أو الزوجة، وجب أن تكون داخلة عليهما على قدر حصصهما إذا لم يكن الأب في هذا الموضع بمنزلة العصبة الذين تبدأ بأهل الفرض، ثم يعطون ما بقي لأن أولئك غير مسمين، والأبوان إذا كانا هما الوارثان ففرض كل واحد منهما معلوم، فلما دخل عليهما فرض الزوج والزوجة دخل على كل واحد منهما بقدر حصته.

التالي السابق


الخدمات العلمية