الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون . ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين . قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فلما جاء سليمان قال الزجاج : لما جاء رسولها ، ويجوز : فلما جاء برها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أتمدونن بمال قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : " أتمدونني " بنونين وياء في الوصل وروى المسيبي عن نافع : " أتمدوني " بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، والكسائي : " أتمدونن " بغير ياء في الوصل والوقف . وقرأ حمزة : " أتمدوني بمال " بنون واحدة مشددة ووقف على الياء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فما آتاني الله قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " فما آتان الله " بكسر النون من غير ياء . وقرأ أبو عمرو ، ونافع ، وحفص عن عاصم : " آتاني " بفتح الياء . وكلهم [ ص: 173 ] فتحوا التاء غير الكسائي ، فإنه أمالها من " آتاني الله " ، وأمال حمزة : " أنا آتيك به " أشم النون شيئا من الكسر ، والمعنى : فما آتاني الله ، أي : من النبوة والملك خير مما آتاكم من المال بل أنتم بهديتكم تفرحون يعني إذا أهدى بعضكم إلى بعض فرح ، فأما أنا فلا ، ثم قال للرسول : ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل أي : لا طاقة لهم بها ولنخرجنهم منها يعني بلدتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      فلما رجعت رسلها إليها بالخبر ، قالت : قد علمت أنه ليس بملك وما لنا به طاقة ، فبعثت إليه : إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما تدعو إليه ، ثم أمرت بعرشها فجعل وراء سبعة أبواب ، ووكلت به حرسا يحفظونه ، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك ، تحت يدي كل ملك منهم ألوف . وكان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يسأل عنه ، فجلس يوما على سرير ملكه فرأى رهجا قريبا منه ، فقال : ما هذا قالوا : بلقيس قد نزلت بهذا المكان ، وكان قدر فرسخ وقد كان بلغه أنها احتاطت على عرشها قبل خروجها ، ف قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها وفي سبب طلبه له خمسة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : ليعلم صدق الهدهد ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : ليجعل ذلك دليلا على صدق نبوته ، لأنها خلفته في دارها واحتاطت عليه ، فوجدته قد تقدمها ، قاله وهب بن منبه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : ليختبر عقلها وفطنتها ، أتعرفه أم تنكره ، قاله سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : لأن صفته أعجبته ، فخشي أن تسلم فيحرم عليه مالها ، فأراد أخذه قبل ذلك ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس : ليريها قدرة الله تعالى وعظم سلطانه ، حكاه الثعلبي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 174 ] قوله تعالى: قال عفريت من الجن قال أبو عبيدة : العفريت من كل جن أو إنس : الفائق المبالغ الرئيس . وقال ابن قتيبة ; العفريت : الشديد الوثيق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : العفريت : النافذ في الأمر ، المبالغ فيه مع خبث ودهاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي بن كعب ، والضحاك ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : " قال عفريت " بفتح العين وكسر الراء . وروى ابن أبي شريح عن الكسائي : " عفرية " بفتح الياء وتخفيفها ; وروي عنه أيضا تشديدها وتنوين الهاء على التأنيث . وقرأ ابن مسعود ، وابن السميفع : " عفراة " بكسر العين وفتح الراء وبألف من غير ياء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: قبل أن تقوم من مقامك أي : من مجلسك ; ومثله في مقام أمين [الدخان : 51] وكان سليمان يجلس للقضاء بين الناس من وقت الفجر إلى طلوع الشمس ، وقيل : إلى نصف النهار . وإني عليه أي : على حمله لقوي .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : أمين قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أمين على ما فيه من الجوهر والدر وغير ذلك ، قاله ابن السائب .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أمين أن لا آتيك بغيره بدلا منه ، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      قال سليمان : أريد أسرع من ذلك . قال الذي عنده علم من الكتاب وهل هو إنسي أم ملك؟ فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : إنسي ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وأبو صالح . ثم فيه أربعة أقوال . أحدها : أنه رجل من بني إسرائيل ، واسمه آصف بن برخيا ، قاله مقاتل . قال ابن عباس : دعا آصف- وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف- فبعث الله الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض يخدون الأرض خدا ، حتى انخرقت [ ص: 175 ] الأرض بالسرير بين يدي سليمان . والثاني : أنه سليمان عليه السلام ، وإنما قال له رجل : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ، فقال : هات ، قال : أنت النبي ابن النبي ، فإن دعوت الله جاءك ، فدعا الله فجاءه ، قاله محمد بن المنكدر .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه الخضر ، قاله ابن لهيعة . والرابع : أنه عابد خرج يومئذ من جزيرة في البحر فوجد سليمان فدعا فأتي بالعرش ، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني : أنه من الملائكة . ثم فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه جبريل عليه السلام . والثاني : ملك من الملائكة أيد الله به سليمان ، حكاهما الثعلبي .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي العلم الذي عنده من الكتاب ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنه اسم الله الأعظم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه علم كتاب سليمان إلى بلقيس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه علم ما كتب الله لبني آدم ، وهذا على أنه ملك ، حكى القولين الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : قبل أن يرتد إليك طرفك أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : قبل أن يأتيك أقصى ما تنظر إليه ، قاله سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : قبل أن ينتهي طرفك إذا مددته إلى مداه ، قاله وهب .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : قبل أن يرتد طرفك حسيرا إذا أدمت النظر ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : بمقدار ما تفتح عينك ثم تطرف ، قاله الزجاج . قال مجاهد : دعا فقال : يا ذا الجلال والإكرام . وقال ابن السائب : إنما قال : يا حي يا قيوم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فلما رآه في الكلام محذوف ، تقديره : فدعا الله [فأتي] [ ص: 176 ] به ، فلما رآه ، يعني : سليمان مستقرا عنده أي : ثابتا بين يديه قال هذا يعني : التمكن من حصول المراد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أأشكر أم أكفر فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أأشكر على السرير إذ أتيت به ، أم أكفر إذا رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أأشكر ذلك من فضل الله علي ، أم أكفر نعمته بترك الشكر له ، قاله ابن جرير .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية