الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب فساد العقد إذا شرط أحدهما لنفسه التبن أو بقعة بعينها ونحوه 2358 - ( عن رافع بن خديج { قال : كنا أكثر الأنصار حقلا ، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهانا عن ذلك فأما الورق فلم ينهنا } أخرجاه وفي لفظ { : كنا أكثر أهل الأرض مزدرعا ، كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض ، قال : فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض ، وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك ، فنهينا فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ } رواه البخاري وفي لفظ قال : { إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ، ويسلم هذا ويهلك هذا ، ولم يكن للناس كراء إلا هذا ، فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به } رواه مسلم وأبو داود والنسائي وفي رواية عن رافع قال : { حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء وبشيء يستثنيه صاحب الأرض ، قال : فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك } رواه أحمد والبخاري والنسائي وفي رواية عن رافع { أن الناس كانوا يكرون المزارع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بالماذيانات وما يسقي الربيع وشيء من التبن ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كري المزارع بهذا [ ص: 330 ] ونهى عنها } رواه أحمد )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( حقلا ) أي : أهل مزارعة ، قال في القاموس : المحاقل : المزارع ، والمحاقلة : بيع الزرع قبل بدو صلاحه أو بيعه في سنبله بالحنطة ، أو بالثلث أو الربع أو أقل أو أكثر ، أو إكراء الأرض بالحنطة ا هـ قوله : ( فنهانا عن ذلك ) أي : عن كري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه ، فيصلح التمسك بهذا المذهب لمن قال : إن المنهي عنه إنما هو هذا النوع ونحوه من المزارعة وقد حكى في الفتح عن الجمهور أن النهي محمول على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة ، لا عن إكرائها مطلقا حتى بالذهب والفضة قال : ثم اختلف الجمهور في جواز إكرائها بجزء مما يخرج منها ، فمن قال بالجواز حمل أحاديث النهي على التنزيه قال : ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج قال : النهي عن كرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها ، أو شرط ما ينبت على النهر لصاحب الأرض لما في كل ذلك من الغرر والجهالة ا هـ

                                                                                                                                            قوله : ( فأما الورق فلم ينهنا ) لا منافاة بين هذه الرواية وبين الرواية الثانية ، أعني قوله فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ ; لأن عدم النهي عن الورق لا يستلزم وجوده ولا وجود المعاملة به وفي رواية عن رافع عند البخاري { أنه قال : ليس بها بأس بالدينار والدرهم } قال في الفتح : يحتمل أن يكون رافع قال ذلك باجتهاده ، ويحتمل أن يكون علم ذلك بطريق التنصيص على جوازه ، أو علم أن النهي عن كري الأرض ليس على إطلاقه ، بل بما إذا كان بشيء مجهول ونحو ذلك ، فاستنبط من ذلك جواز الكري بالذهب والفضة ، ويرجح كونه مرفوعا بما أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عنه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال : إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض ، ورجل منح أرضا ، ورجل اكترى أرضا بذهب أو فضة } لكن بين النسائي من وجه آخر أن المرفوع منه النهي عن المحاقلة والمزابنة ، وأن بقيته مدرج من كلام سعيد بن المسيب وقد أخرج أبو داود والنسائي ما هو أظهر في الدلالة على الرفع من هذا وهو حديث سعد بن أبي وقاص الآتي

                                                                                                                                            قوله : " بما على الماذيانات " بذال معجمة مكسورة ثم مثناة تحتية ثم ألف ثم نون ثم ألف ثم مثناة فوقية هذا هو المشهور وحكى القاضي عياض عن بعض الرواة فتح الذال في غير صحيح مسلم ، وهي ما ينبت على حافة النهر ومسايل الماء ، وليست عربية ولكنها سوادية ، وهي في الأصل مسايل المياه ، فتسمية النابت عليها باسمها كما وقع في بعض الروايات بلفظ يؤاجرون على الماذيانات مجاز مرسل ، والعلاقة المجاورة أو الحالية والمحلية : قوله : " وأقبال الجداول " بفتح الهمزة وسكون القاف وتخفيف الموحدة : أي : أوائل الجداول : السواقي [ ص: 331 ] جمع جدول : وهو النهر الصغير قوله : ( وأشياء من الزرع ) يعني : مجهول المقدار ، ويدل على ذلك قوله في آخر الحديث ( فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به ) . قوله : ( فيهلك ) بكسر اللام : أي فربما يهلك

                                                                                                                                            قوله : ( زجر عنه ) على البناء للمجهول : أي نهي عنه ، وذلك لما فيه من الغرر المؤدي إلى التشاجر وأكل أموال الناس بالباطل قوله : ( على الأربعاء ) جمع ربيع : وهو النهر الصغير كنبي وأنبياء ، ويجمع أيضا على ربعان كصبي وصبيان قوله : ( يستثنيه ) من الاستثناء كأنه يشير إلى استثناء الثلث والربع ، كذا قال في الفتح واستدل على أن هذا هو المراد برواية أخرى ذكرها البخاري ، ولكنه ينافي هذا التفسير قوله في الرواية الأولى " فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به " وهذا الحديث يدل على تحريم المزارعة على ما يفضي إلى الغرر والجهالة ويوجب المشاجرة ، وعليه تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن المحاباة كما هو شأن حمل المطلق على المقيد

                                                                                                                                            ولا يصح حملها على المخابرة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر لما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم استمر عليها إلى موته ، واستمر على مثل ذلك جماعة من الصحابة .

                                                                                                                                            ويؤيد هذا تصريح رافع في هذا الحديث بجواز المزارعة على شيء معلوم مضمون ، ولا يشكل على جواز المزارعة بجزء معلوم حديث أسيد بن ظهير الآتي ، فإن النهي فيه ليس بمتوجه إلى المزارعة بالنصف والثلث والربع فقط ، بل إلى ذلك مع اشتراط ثلاث جداول والقصارة وما يسقي الربيع ، ولا شك أن مجموع ذلك غير المخابرة التي أجازها صلى الله عليه وسلم وفعلها في خيبر ، نعم حديث رافع عند أبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ { من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يكارها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى } وكذلك حديثه أيضا عند أبي داود بإسناد فيه بكر بن عامر البجلي الكوفي وهو متكلم فيه قال : { إنه زرع أرضا فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها ، فسأله : لمن الزرع ولمن الأرض ؟ فقال : زرعي ببذري وعملي ولي الشطر ولبني فلان الشطر ، فقال : أربيتما فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك } ومثله حديث زيد بن ثابت عند أبي داود قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة ، قلت : وما المخابرة ؟ قال : أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع } فيها دليل على المنع من المخابرة بجزء معلوم

                                                                                                                                            ومثل هذه الأحاديث حديث أسيد الآتي على فرض أنه نهى عن المزارعة بجزء معلوم وعدم تقييده بما فيه من كلام أسيد كما سيأتي ، ولكنه لا سبيل إلى جعلها ناسخة لما فعله صلى الله عليه وسلم في خيبر لموته وهو مستمر على ذلك وتقريره لجماعة من الصحابة عليه ، ولا سبيل إلى جعل هذه الأحاديث المشتملة على النهي منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم وتقريره لصدور النهي عنه في أثناء مدة معاملته ، ورجوع جماعة من الصحابة إلى رواية من روى النهي ، والجمع ما أمكن هو الواجب وقد أمكن هنا بحمل النهي على معناه المجازي وهو الكراهة ، ولا [ ص: 332 ] يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " أربيتما " في حديث رافع المذكور ، وذلك بأن يقال : قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاملة بأنها ربا ، والربا حرام بالإجماع فلا يمكن الجمع بالكراهة ; لأنا نقول : الحديث لا ينتهض للاحتجاج به للمقال الذي فيه ، ولا سيما مع معارضته للأحاديث الصحيحة الثابتة من طرق متعددة الواردة بجواز المعاملة بجزء معلوم ، وكيف يصح أن يكون ذلك ربا وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات عليه جماعة من أجلاء الصحابة ، بل يبعد أن يعامل النبي صلى الله عليه وسلم المعاملة المكروهة ويموت عليها ، ولكنه ألجأنا إلى القول بذلك الجمع بين الأحاديث وهذا ما نرجحه في هذه المسألة

                                                                                                                                            ولا يصح الاعتذار عن الأحاديث القاضية بالجواز بأنها مختصة به صلى الله عليه وسلم لما تقرر أنه صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء نهيا مختصا بالأمة وفعل ما يخالفه كان ذلك الفعل مختصا به ; لأنا نقول : أولا : النهي غير مختص بالأمة ، وثانيا : أنه صلى الله عليه وسلم قرر جماعة من الصحابة على مثل معاملته في خيبر إلى عند موته ، وثالثا : أنه قد استمر على ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم جماعة من أجلاء الصحابة ، ويبعد كل البعد أن يخفى عليهم مثل هذا ومن أوضح ما استدل به على كراهة المزارعة بجزء معلوم حديث ابن عباس الآتي

                                                                                                                                            3259 - ( وعن أسيد بن ظهير { قال : كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أو افتقر إليها أعطاها بالنصف والثلث والربع ، ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما يسقي الربيع ، وكان يعمل فيها عملا شديدا ويصيب منها منفعة ، فأتانا رافع بن خديج فقال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم نافعا ، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم ، نهاكم عن الحقل } رواه أحمد وابن ماجه والقصارة بقية الحب في السنبل بعدما يداس ) الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي بدون كلام أسيد بن ظهير ، ورجال إسناد الحديث رجال الصحيح . قوله : ( والقصارة ) قال في القاموس : والقصارة بالضم ، والقصرى بالكسر والقصر ، والقصرة محركتين ، والقصرى كالبشرى : ما يبقى في المنخل بعد الانتخال ، أو ما يخرج من القت بعد الدوسة الأولى ، والقشرة العليا من الحبة ا هـ

                                                                                                                                            قوله : ( عن الحقل ) بفتح الحاء المهملة وإسكان القاف ، أصله كما قال الجوهري : الحقل : الزرع إذا تشعب ورقه قبل أن تغلظ سوقه ، والحقل : القراح الطيب يعني : من الأرض الصالحة للزراعة ، والمحاقل : مواضع المزارعة كما أن المزارع مواضعها ، وقد بين البخاري [ ص: 333 ] المحاقل التي نهى عنها صلى الله عليه وسلم من رواية رافع قال فيه { ما تصنعون بمحاقلكم ؟ قالوا : نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير ، قال : لا تفعلوا } والحديث يدل على عدم جواز مطلق المزارعة ، ولكنه ينبغي أن يقيد بما في أوله من كلام أسيد من ضم الاشتراط المقتضي للفساد وعلى فرض عدم تقييده بذلك فيحمل على كراهة التنزيه لما أسلفنا




                                                                                                                                            الخدمات العلمية