الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما جرت سنته الإلهية أنه يذكر ابتداء الخلق دليلا على الإعادة؛ سابقا ولاحقا؛ وابتدأ هنا بذكر الحشر؛ لما قام عليه من الدليل بإحياء الأرض؛ توقع السامع تفصيل ابتداء الخلق؛ الذي هو أدل دليل على البعث؛ بعد إجماله في قوله: وإنا لنحن نحيي ؛ فقال - مفتتحا بحرف التوقع -: ولقد خلقنا ؛ أي: بالعظمة الباهرة؛ الإنسان ؛ أي: الآنس بنفسه؛ الناسي لغيره؛ من صلصال ؛ أي: طين يابس؛ له عند النقر صلصلة؛ أي: صوت شديد متردد في الهواء؛ فإن كان فيه مد من غير ترجيع فهو "صلل"؛ فالمراد: شديد يبسه؛ ولكنه غير مطبوخ؛ وأما [ ص: 43 ] المطبوخ فهو فخار: ثم بين أصل الصلصال؛ فقال: من حمإ ؛ أي: طين أسود؛ منتن؛ مسنون ؛ أي: مصبوب مهيإ لعمل ما يراد منه بالدلك؛ والتحسين؛ من الذهاب؛ والاضطراب؛ والجعل على طبع وطريقة مستوية؛ وكل ذلك على غاية السهولة؛ والطواعية؛ والهوان؛ فذكر أصل الإنسان؛ وما وقع له من إبليس - الذي هو أصل الجن؛ كما أن آدم - عليه السلام - أبو البشر - من الكيد؛ حتى أخرجه من دار الصفاء إلى دار الكدر؛ ليحذره العقلاء من بني آدم؛ وفي التنبيه بابتداء الخلق على وصول البشر إلى أصل - كان بمحض القدرة - مخالف لهم في التكوين بين أبوين؛ وانتهاء الجن إلى أصل ليس خلقه كخلقهم تنبيه عظيم على انتهاء الموجودات إلى موجود لا يجانسهم؛ بل هو خالق غير مخلوق؛ فاعل بالاختيار؛ واحد لا شريك له؛ ولا اعتراض عليه؛ قادر على ما يريد - سبحانه -؛ وفي خلقه من الماء - الذي هو كالأب - والطين - الذي هو كالأم - بمساعدة النار؛ والهواء؛ من الحكمة أن يكون ملائما لما في هذا العالم؛ فيكون بقاؤه بذلك الذي خلق منه؛ في مأكله ومشربه؛ وملبسه؛ وسائر أموره؛ وذلك أدل على حكمة الخالق؛ وعلمه ووحدانيته. [ ص: 44 ] ومادة "صلل"؛ تدور على الصلصال؛ الذي هو الطين مطلقا؛ أو الطين الحر يخلط بالرمل؛ أو الطين ما لم يجعل خزفا؛ ويتفرع جميع معاني المادة منه؛ لأن من لوازمه في أوله الماء؛ واللين بنداوته؛ وسهولة خلطه لغيره؛ فيأتي الخفاء لأنه يغرز فيه بغير صوت؛ ومنها قبول التصفية من الغش؛ ومنها في آخره الصلابة لشدة اليبس؛ فيلزم تضام الأجزاء؛ وتضايقها على انتظام؛ أو غير انتظام؛ والصوت؛ وشدة الانفصال بالتشقق؛ ومن لوازمه التغير بالنتن؛ فيأتي الخبث والفساد؛ ومن لوازمه شدة الاختلاط؛ بحيث إذا نشب فيه شيء عسر خلاصه؛ ومن لوازمه تميزه عما عداه؛ ومحل يصنع فيه؛ فمن الصوت واليبس: صليل الحديد؛ والإبل؛ ونحو ذلك؛ يقال: "صل الحديد؛ واللجام": امتد صوته؛ فإن توهم ترجيع الصوت قيل: "صلصل"؛ و"صل البيض": سمع له طنين عند القراع؛ و"المسمار صليلا": ضرب فأكره أن يدخل في الشيء؛ و"الإبل صليلا": يبست أمعاؤها من العطش؛ فسمع لها صوت عند الشرب؛ [ ص: 45 ] ومن الصوت: "صلصل": أوعد وتهدد؛ وقتل سيد العسكر؛ لظهور الصيت بذلك؛ و"صلصل الرعد": صفا صوته؛ و"الكلمة": أخرجها متحذلقا؛ وطائر؛ أو الفاختة؛ والراعي الحاذق؛ و"المصلل"؛ كـ "محدث": السيد الكريم الحسيب؛ والخالص النسب؛ والأسكف؛ وهو الإسكاف عند العامة؛ و"تصلصل الغدير": جفت حمأته؛ فتهيأ لأن يصوت يبسه؛ و"الحلي": صوت؛ و"حمار صلصل؛ وصلاصل"؛ بضمهما؛ و"صلصال؛ ومصلصل": مصوت؛ ومن النتن: "صلول اللحم والماء"؛ يقال: "صل اللحم صلولا": أنتن؛ والماء: أجن؛ و"الصليان"؛ بكسرتين؛ مشددة اللام: ما تغير من اللحم؛ و"الصلة"؛ بالضم: الريح المنتنة؛ [ ص: 46 ] ومن اليبس: الصلة؛ وهي الجلد اليابس؛ قبل الدباغ؛ والنعل؛ والأرض؛ أو اليابسة؛ و"صل السقاء صليلا": يبس؛ أو أرض لم تمطر بين ممطورتين؛ و"الصل"؛ بالكسر: القرن؛ وشجر؛ والسيف القاطع؛ ومن النداوة: "الصلة"؛ وهي التراب الندي; ومن الماء أعم من أن يكون كثيرا؛ أو قليلا؛ "الصلة"؛ للمطرة الواسعة؛ والمتفرقة القليلة؛ و"الصلة"؛ بالضم: بقية الماء؛ وغيره؛ وكذا الصلصلة والصلصل؛ بضمهما: بقية الماء في الغدير؛ وكذا من الدهن والزيت؛ وأما التفرق فمن التشقق؛ و"الصلة": القطعة من العشب؛ سميت باسم المطر؛ تسمية للمسبب باسم السبب؛ ومن اللين: "الصلالة"؛ بالكسر؛ لبطانة الخف؛ أو ساقها؛ و"الصلصل"؛ كـ "هدهد": ناصية الفرس؛ ويفتح؛ أو بياض في شعر معرفته؛ وما ابيض من شعر ظهره؛ وهذا من التمييز أيضا; ومن المحل: القدح؛ أو الصغير منه؛ و"المصلة"؛ بالكسر: الإناء يصفى فيه الشراب; ومن الخبث: "الصل"؛ بالكسر؛ للحية مطلقا؛ أو الدقيقة الصفراء؛ والداهية؛ [ ص: 47 ] والسيف القاطع؛ شبه بذلك لإهلاكه؛ و"إنه لصل أصلال": داه؛ منكر في الخصومة وغيرها؛ و"صلتهم الصالة": أصابتهم الداهية؛ وهذا أيضا من شدة الانتشاب؛ ومن التشقق: "الصال"؛ وهو الماء يقع على الأرض فتشقق؛ ومن التصفية: "صللنا الحب المختلط بالتراب": صببنا فيه ماء؛ فعزلنا كلا على حياله؛ و"صل الشراب صلا": صفاه؛ و"المصلة"؛ بالكسر: الإناء يصفى فيه؛ ومن تضام الأجزاء وتضايقها؛ وقد يكون مع الانتظام؛ ومنه: "تلصيص البنيان"؛ أي: ترصيصه؛ وقد لا يشترط فيه الانتظام؛ ومنه: "التص"؛ بمعنى: التزق؛ و"اللص"؛ وهو تقارب المنكبين؛ وتقارب الأضراس؛ وتضام مرفقي الفرس إلى زوره؛ و"اللصاء"؛ من الجباه: الضيقة؛ والمرأة الملتزقة الفخذين؛ لا فرجة بينهما؛ والزنجي؛ ألص الأليتين؛ [ ص: 48 ] وإغلاق الباب; ومن إطلاقه على ما ليس منتظما وإن لم يكن تقارب: "اللصاء من الغنم"؛ وهي ما أقبل أحد قرنيها وأدبر الآخر؛ ومن الخفاء الذي هو من لوازم الطين وهو ندي: "اللص"؛ بالفتح؛ وهو فعل الشيء في ستر؛ والسارق؛ ويثلث.

                                                                                                                                                                                                                                      ومادة "سنن"؛ تدور على الدلك؛ ويلزمه التحسين؛ فمن الدلك: "السن"؛ بالكسر؛ وهو الضرس؛ والحبة من الثوم؛ تشبه به؛ والثور الوحشي؛ وسنان الرمح؛ ومكان البري من القلم؛ والأكل الشديد؛ والقرن؛ وشعبة المنجل؛ ومقدار العمر؛ لأنه لما مر على صاحبه كان كأنه دلكه؛ و"المسان"؛ من الإبل: الكبار؛ و"سن السكين"؛ وغيره؛ فهو مسنون؛ و"المسن"؛ بالكسر: آلة السن؛ وسنن رمحه إليه: سدده؛ وسن الأضراس: سوكها؛ والإبل: ساقها سريعا؛ لتدالكها عند الازدحام؛ و"سن الأمر": بينه؛ فكأنه هيأه لأن يركب فيدلك بالأفكار؛ أو غيرها؛ و"سن الطين": عمله فخارا؛ و"فلانا": طعنه بالسنان؛ أو عضه بالأسنان؛ و"الفحل الناقة": كبها على وجهها؛ و"عليه [ ص: 49 ] الدرع؛ أو الماء": صبه؛ و"الطريقة": سارها؛ و"استن": استاك؛ و"الفرس": قمص؛ و"السراب": اضطرب؛ و"السنة"؛ بالكسر: الفأس لها خلفان؛ و"السنة"؛ بالضم: السيرة؛ أو الطبيعة؛ كأنها عولجت حتى انقادت؛ و"السنة"؛ من الله: حكمه؛ وأمره ونهيه؛ و"سنن الطريق"؛ مثلثة؛ وبضمتين: نهجه وجهته؛ و"جاءت الريح سناسن": على طريقة واحدة؛ و"الحمأ المسنون": المنتن؛ لأنه تهيأ لأن يدلك بالآلة جبلا؛ حتى يصلح لما يستعمل فيه؛ و"الفحل يسان الناقة": يكدمها؛ ويطردها؛ حتى ينوخها ليسفدها؛ و"السنين"؛ كـ "أمير": ما يسقط من الحجر إذا حككته؛ والأرض التي أكل نباتها؛ كالمسنونة؛ و"السنسن"؛ بالكسر: العطش؛ كأنه سن الأمعاء حتى أحرقها؛ ورأس المحالة؛ أي: البكرة العظيمة؛ وحرف فقار الظهر؛ كالسن والسنسنة؛ ورأس عظام الصدر؛ أو طرف الضلع التي في الصدر؛ و"المستسن": الطريق المسلوك؛ و"المستن": الأسد؛ و"السنن"؛ محركة: [ ص: 50 ] الإبل تستن في عدوها؛ و"السنينة"؛ كـ "سفينة": الرمل المرتفع المستطيل على وجه الأرض؛ وهو من المسنون بمعنى المصبوب: و"سنني هذا الشيء": شهى إلي الطعام؛ كأنه سن المعدة حتى قطعت بعد كلالها؛ و"تسانت الفحول": تكادمت؛ و"النس": سرعة الذهاب؛ ويلزمه تدالك الأعضاء؛ و"نسيس الإنسان": مجهوده؛ لأن ذلك لا يكون إلا بعد أشد الاضطراب؛ و"النسيسة": الحشاشة؛ وهي بقية الروح من المريض؛ والجريح؛ كأنها صدمت حتى ذهب أكثرها؛ و"نس اللحم": ذهب بلله من شدة الطبخ؛ لأن إحراق النار أعظم دلك؛ وكذا "نس الحطب"؛ إذا أخرجت النار زبده على رأسه؛ لقيام الإحراق مقام الرضخ فيما يستخرج دهنه؛ و"نس من العطش": جف؛ من ذلك; ومن التحسين: "سنن المنطق"؛ إذا حسنه؛ و"سن الأمر": بينه؛ و"الطين": عمله فخارا؛ و"المال": أرسله في الرعي؛ أو أحسن القيام عليه؛ حتى [ ص: 51 ] كأنه صقله؛ و"الشيء": صوره؛ و"السنة"؛ بالضم: الوجه؛ أو حره؛ أو دائرته؛ أو الصورة؛ أو الجبهة؛ و"رجل مسنون الوجه": مملسه؛ حسنه؛ سهله؛ أو في وجهه وأنفه طول؛ وكل ذلك يرجع إلى الدلك أيضا؛ والله أعلم؛ وقال أبو حيان : قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "المسنون": الرطب؛ ومعناه: المصبوب؛ لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب; وقال الرازي في "اللوامع": وهذا إشارة إلى درجات خلق آدم - عليه السلام - ومراتبه؛ وأشار الله (تعالى) إلى ذلك في مواضع مختلفة؛ حسبما اقتضته الحكمة؛ فقال في موضع: خلقه من تراب ؛ إشارة إلى المبدإ الأول؛ وفي آخر: من طين ؛ إشارة إلى الجمع بين الماء والتراب؛ وفي آخر: من حمإ مسنون ؛ إشارة إلى الطين المتغير؛ المستقر على حالة من الاعتدال تصلح لقبول الصورة؛ وفي آخر: من صلصال ؛ إشارة إلى يبسه؛ وسماع صلصلة منه؛ وفي آخر: من صلصال كالفخار ؛ وهو الذي قد أصلح بأثر من النار؛ فصار كالخذف؛ وبهذه القوة النارية حصل في الإنسان أثر من الشيطنة؛ انتهى؛ وقال الرماني: وقد تضمنت الآيات البيان عما يوجبه تقليب الحيوان من حال إلى حال؛ [ ص: 52 ] من جاعل قادر؛ قلبه من أصل هو أبعد شيء من حال الحيوان؛ إلى الحيوان؛ وقال: إن الحكمة في جعله من الحمأة العبرة في أنه قلب من تلك الحال الحقيرة في الصفة؛ إلى هذه الحال الجليلة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية