الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال

                                                                                                                                                                                                                                      وسكنتم من السكنى، بمعنى: التبوؤ والإيطان، وإنما استعمل بكلمة في حيث قيل: في مساكن الذين ظلموا أنفسهم جريا على الأصل، لأنه منقول عن مطلق السكون الذي حقه التعدية بها، أو من السكون واللبث، أي: قررتم في مساكنهم، مطمئنين، سائرين سيرتهم في الظلم والكفر والمعاصي، غير محدثين لأنفسكم بما لقوا، بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذانا بأن غائلة الظلم آئلة إلى صاحبه، والمراد بـ "هم": إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال، والخطاب السابق بالمنذرين، وإما أوائلهم من قوم نوح وهود، على تقدير عمومها للكل، وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم. وتبين لكم بمشاهدة الآثار، وتواتر الأخبار كيف فعلنا بهم من الإهلاك، والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد؟ وكيف منصوب بما بعده من الفعل، وليس الجملة فاعلا لتبين، كما قاله بعض الكوفيين، بل فاعله ما دلت هي عليه دلالة واضحة، أي: فعلنا العجيب بهم، وفيه من المبالغة ما ليس في أن يقال: ما فعلنا بهم، كما مر في قوله تعالى: ليسجننه وقرئ: (وبين).

                                                                                                                                                                                                                                      وضربنا لكم الأمثال أي: بينا لكم في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين، أو على ألسنة الأنبياء عليهم السلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين، صفات ما فعلوا، وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة، كالأمثال المضروبة لكل ظالم لتعتبروا بها، وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم، ومآلكم على مآلهم، وتنتقلوا من حلول [ ص: 58 ] العذاب العاجل إلى حلول العذاب الآجل، فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، أو بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر، واستحقاق العذاب. والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير أقسمتم، أي: أقسمتم بالخلود. والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم، وتبين لك فعلنا العجيب بهم، ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال. وقوله عز وجل:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية