الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة الخامسة‏ :

كثيرا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسبابا متعددة ، وطريق الاعتماد في ذلك أن ينظر إلى العبارة الواقعة :

فإن عبر أحدهم بقوله : نزلت في كذا ، والآخر : نزلت في كذا ، وذكر أمرا آخر ، فقد [ ص: 128 ] تقدم أن هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول ، فلا منافاة بين قوليهما إذا كان اللفظ يتناولهما ، كما سيأتي تحقيقه في النوع الثامن والسبعين .

وإن عبر واحد بقوله : نزلت في كذا ، وصرح الآخر بذكر سبب خلافه فهو المعتمد وذاك استنباط . ومثاله‏ ما أخرجه البخاري ، عن ابن عمر ، قال : أنزلت نساؤكم حرث لكم [ البقرة : 223 ] في إتيان النساء في أدبارهن . وتقدم عن جابر التصريح بذكر سبب خلافه ، فالمعتمد حديث جابر ; لأنه نقل ، وقول ابن عمر استنباط منه وقد وهمه فيه ابن عباس ، وذكر مثل حديث جابر ، كما أخرجه أبو داود والحاكم .

وإن ذكر واحد سببا وآخر سببا غيره ، فإن كان إسناد أحدهما صحيحا دون الآخر فالصحيح المعتمد ، مثاله : ما أخرجه الشيخان وغيرهما ، عن جندب : اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فأنزل الله والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى [ الضحى : 1 - 3 ] ‏ .

وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة ، عن حفص بن ميسرة ، عن أمه ، عن أمها - وكانت خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جروا دخل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل تحت السرير فمات فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي ، فقال : يا خولة ما حدث في بيت رسول الله ؟ جبريل لا يأتيني فقلت في نفسي : لو هيأت البيت وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فأخرجت الجرو فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ترعد لحيته ، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فأنزل الله : [ ص: 129 ] ( والضحى ) إلى قوله ( ‏فترضى‏ ) .

وقال ابن حجر في شرح البخاري : قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة ، لكن كونها سبب نزول الآية غريب ، وفي إسناده من لا يعرف ، فالمعتمد ما في الصحيح .

ومن أمثلته - أيضا : - ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة ، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود ، فاستقبله بضعة عشر شهرا - وكان يحب قبلة إبراهيم - فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 150 ] فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) ! فأنزل الله : قل لله المشرق والمغرب [ البقرة : 115 ] وقال : فأينما تولوا فثم وجه الله . [ البقرة : 115 ]

وأخرج الحاكم وغيره ، عن ابن عمر ، قال : نزلت فأينما تولوا فثم وجه الله أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في التطوع .

وأخرج الترمذي - وضعفه - من حديث عامر بن ربيعة قال : كنا في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ؟ فصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت .

[ ص: 130 ] وأخرج الدارقطني نحوه من حديث جابر ، بسند ضعيف أيضا .

وأخرج ابن جرير : عن مجاهد ، قال : لما نزلت ادعوني أستجب لكم [ غافر : 60 ] قالوا : إلى أين ؟ فنزلت . مرسل .

وأخرج عن قتادة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فنزلت . معضل غريب جدا .

فهذه خمسة أسباب مختلفة ، وأضعفها الأخير لإعضاله ، ثم ما قبله لإرساله ، ثم ما قبله لضعف رواته ، والثاني صحيح ، لكنه قال : قد أنزلت في كذا ولم يصرح بالسبب ، والأول صحيح الإسناد ، وصرح فيه بذكر السبب ، فهو المعتمد .

ومن أمثلته – أيضا - : ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم ، من طريق ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة - أو سعيد - عن ابن عباس قال : خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، تعال فتمسح بآلهتنا ، وندخل معك في دينك وكان يحب إسلام قومه . فرق لهم ، فأنزل الله وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك الآيات [ الإسراء : 73 - 77 ] .

وأخرج ابن مردويه من طريق العوفي ، عن ابن عباس : أن ثقيفا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا ، فإذا قبضنا الذي يهدى لها أحرزناه ، ثم أسلمنا . فهم أن يؤجلهم فنزلت .

هذا يقتضي نزولها بالمدينة . وإسناده ضعيف ، والأول يقتضي نزولها بمكة وإسناده حسن ، وله شاهد عند أبي الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، يرتقي به إلى درجة الصحيح ، فهو المعتمد .

الحال الرابع : أن يستوي الإسنادان في الصحة ، فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة ، أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات . مثاله : ما أخرجه البخاري ، عن ابن مسعود قال : [ ص: 131 ] كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، وهو يتوكأ على عسيب ، فمر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم : لو سألتموه ! فقالوا : حدثنا عن الروح ، فقام ساعة ورفع رأسه ، فعرفت أنه يوحى إليه ، حتى صعد الوحي ، ثم قال قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ الإسراء : 85 ] .

وأخرج الترمذي وصححه ، عن ابن عباس . قال : قالت قريش لليهود : أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل ، فقالوا : اسألوه عن الروح ، فسألوه ، فأنزل الله ويسألونك عن الروح .

الآية .

فهذا يقتضي أنها نزلت بمكة . والأول خلافه ، وقد رجح بأن ما رواه البخاري أصح من غيره ، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة .

الحال الخامس : أن يمكن نزولها عقيب السببين أو الأسباب المذكورة ، بألا تكون معلومة التباعد ، كما في الآيات السابقة فيحمل على ذلك . ومثاله : ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة ، عن ابن عباس : أن هلال ابن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سمحاء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : البينة أو حد في ظهرك فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ; ينطلق يلتمس البينة ! فأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم . . . . حتى بلغ : إن كان من الصادقين [ النور : 6 - 9 ] .

وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال : جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال : اسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ، فقتله ، أيقتل به ، أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعاب السائل ، فأخبر عاصم عويمرا ، فقال : والله لآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنه ، فأتاه ، فقال : أنه قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن . . . الحديث .

[ ص: 132 ] جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال ، وصادف مجيء عويمر أيضا ، فنزلت في شأنهما معا . وإلى هذا جنح النووي ، وسبقه الخطيب فقال : لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد .

وأخرج البزار : عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به ؟ قال : شرا قال : فأنت يا عمر ؟ قال : كنت أقول : لعن الله الأعجز ، فإنه لخبيث . فنزلت .

قال ابن حجر : لا مانع من تعدد الأسباب .

الحال السادس : أن لا يمكن ذلك : فيحمل على تعدد النزول وتكرره . مثاله : ما أخرجه الشيخان ، عن المسيب ، قال : لما حضر أبا طالب الوفاة ، دخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : أي عم ، قل : لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ، فقال أبو جهل وعبد الله : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب .

فلم يزالا يكلمانه حتى قال : هو على ملة عبد المطلب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ، فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية
[ التوبة : 113 ] .

وأخرج الترمذي – وحسنه - عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان ! فقال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت .

[ ص: 133 ] وأخرج الحاكم وغيره ، عن ابن مسعود قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما إلى المقابر ، فجلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ، ثم بكى فقال : إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، فأنزل علي ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين فجمع بين هذه الأحاديث بتعدد النزول .

ومن أمثلته أيضا : ما أخرجه البيهقي ، والبزار ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على حمزة حين استشهد ، وقد مثل به ، فقال : لأمثلن بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف بخواتيم سورة النحل : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ النحل : 126 ] إلى آخر السورة .

وأخرج الترمذي ، والحاكم ، عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون ، ومن المهاجرين ستة ، منهم حمزة ، فمثلوا بهم فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم . فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله وإن عاقبتم الآية .

[ ص: 134 ] فظاهره تأخير نزولها إلى الفتح ، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد .

قال ابن الحصار : ويجمع أنها نزلت أولا بمكة قبل الهجرة مع السورة لأنها مكية ، ثم ثانيا بأحد ، ثم ثالثا يوم الفتح تذكيرا من الله لعباده . وجعل ابن كثير من هذا القسم آية الروح .

تنبيه : قد يكون في إحدى القصتين : ( فتلا ) فيهم الراوي ، فيقول : ( فنزل ) .

مثاله : ما أخرجه الترمذي - وصححه - عن ابن عباس ، قال : مر يهودي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيف تقول يا أبا القاسم ، إذا وضع الله السماوات على ذه ، والأرضين على ذه ، والماء على ذه ، والجبال على ذه ، وسائر الخلق على ذه ؟ فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره الآية [ الأنعام : 91 ] . والحديث في الصحيح بلفظ : فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . . وهو الصواب ; فإن الآية مكية .

ومن أمثلته أيضا : ما أخرجه البخاري ، عن أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن جبريل آنفا قال : جبريل ؟ قال : " نعم " قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة . فقرأ هذه الآية من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك [ البقرة : 97 ] .

قال ابن حجر في شرح البخاري : ظاهر السياق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ الآية ردا على قول اليهود ، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ . قال : وهذا هو المعتمد ، فقد صح في سبب نزول الآية قصة غير قصة ابن سلام .

تنبيه : عكس ما تقدم : أن يذكر سبب واحد في نزول الآيات المتفرقة ، ولا إشكال في [ ص: 135 ] ذلك فقد ينزل في الوقعة الواحدة آيات عديدة في سور شتى .

مثاله : ما أخرجه الترمذي والحاكم : عن أم سلمة ، أنها قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ ! فأنزل الله : فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع [ آل عمران : 195 ] إلى آخر الآية .

وأخرج الحاكم عنها – أيضا - قالت : قلت : يا رسول الله تذكر الرجال ولا تذكر النساء ؟ ! فأنزلت إن المسلمين والمسلمات [ الأحزاب : 35 ] وأنزلت أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى .

وأخرج – أيضا - عنها أنها قالت : تغزو الرجال ولا تغزو النساء ، وإنما لنا نصف الميراث ؟ ! فأنزل الله : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض وأنزل : إن المسلمين والمسلمات .

ومن أمثلته أيضا : ما أخرجه البخاري ، من حديث زيد بن ثابت : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه : لا يستوي القاعدون من المؤمنين إلى والمجاهدون في سبيل الله [ النساء : 95 ] فجاء ابن أم مكتوم ، وقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان أعمى فأنزل الله : غير أولي الضرر .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن زيد بن ثابت - أيضا - قال : كنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني لواضع القلم على أذني ، إذا أمر بالقتال ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى ، فقال : كيف لي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فأنزلت ليس على الضعفاء [ التوبة : 91 ] .

ومن أمثلته : ما أخرجه ابن جرير ، عن ابن عباس ، قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا في ظل حجرة ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فطلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق الرجل ، فجاء أصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله يحلفون بالله ما قالوا [ التوبة : 74 ] الآية .

[ ص: 136 ] وأخرجه الحاكم وأحمد بهذا اللفظ ، وآخره : فأنزل الله يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم الآية [ المجادلة : 18 ] .

تنبيه : تأمل ما ذكرته لك في هذه المسألة ، واشدد به يديك ، فإني حررته واستخرجته بفكري من استقراء صنيع الأئمة ومتفرقات كلامهم ، ولم أسبق إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية