الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        5 - الحديث الخامس : عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ، ثم يغتسل منه } ولمسلم { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } .

                                        [ ص: 73 ]

                                        التالي السابق


                                        [ ص: 73 ] الكلام عليه من وجوه :

                                        الأول : " الماء الدائم " هو الراكد .

                                        وقوله " الذي لا يجري " تأكيد لمعنى الدائم .

                                        وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الراكد ، وإن كان أكثر من قلتين ; فإن الصيغة صيغة عموم .

                                        وأصحاب الشافعي : يخصون هذا العموم ، ويحملون النهي على ما دون القلتين . ويقولون بعدم تنجيس القلتين - فما زاد - إلا بالتغير : مأخوذ من حديث القلتين . فيحمل هذا الحديث العام في النهي على ما دون القلتين ، جمعا بين الحديثين . فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقهما .

                                        وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه .

                                        والخاص مقدم على العام .

                                        ولأحمد طريقة أخرى : وهي الفرق بين بول الآدمي ، وما في معناه ، من عذرته المائعة ، وغير ذلك من النجاسات .

                                        فأما بول الآدمي ، وما في معناه : فينجس الماء ، وإن كان أكثر من قلتين .

                                        وأما غيره من النجاسات : فتعتبر فيه القلتان ، وكأنه رأى الخبث المذكور في حديث القلتين عاما بالنسبة إلى الأنجاس .

                                        وهذا الحديث خاص بالنسبة إلى بول الآدمي .

                                        فيقدم الخاص على العام ، بالنسبة إلى النجاسات الواقعة في الماء الكثير . ويخرج بول الآدمي وما في معناه من جملة النجاسات الواقعة في القلتين بخصوصه .

                                        فينجس الماء دون غيره من النجاسات .

                                        ويلحق بالبول المنصوص عليه : ما يعلم أنه في معناه .

                                        واعلم أن هذا الحديث لا بد من إخراجه عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد .

                                        ; لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جدا : لا تؤثر فيه النجاسة .

                                        والاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته النجاسة : امتنع استعماله .

                                        فمالك - رحمه الله - [ ص: 74 ] إذا حمل النهي على الكراهة - لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلا بالتغير - لا بد أن يخرج عنه صورة التغير بالنجاسة ، أعني عن الحكم بالكراهية ، فإن الحكم ثم : التحريم ، فإذا لا بد من الخروج عن الظاهر عند الكل .

                                        فلأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا : خرج عنه المستبحر الكثير جدا بالإجماع ، فيبقى ما عداه على حكم النص ، فيدخل تحته ما زاد على القلتين .

                                        ويقول أصحاب الشافعي : خرج الكثير المستبحر بالإجماع الذي ذكرتموه .

                                        وخرج القلتان فما زاد ، بمقتضى حديث القلتين ، فيبقى ما نقص عن القلتين داخلا تحت مقتضى الحديث .

                                        ويقول من نصر قول أحمد المذكور : خرج ما ذكرتموه ، وبقي ما دون القلتين داخلا تحت النص ، إلا أن ما زاد على القلتين ، مقتضى حديث القلتين فيه عام في الأنجاس ، فيخص ببول الآدمي .

                                        ولمخالفهم أن يقول : قد علمنا جزما أن هذا النهي إنما هو لمعنى في النجاسة ، وعدم التقرب إلى الله بما خالطها .

                                        وهذا المعنى يستوي فيه سائر الأنجاس ، ولا يتجه تخصيص بول الآدمي منها ، بالنسبة إلى هذا المعنى ، فإن المناسب لهذا المعنى - أعني التنزه عن الأقذار - أن يكون ما هو أشد استقذارا أوقع في هذا المعنى وأنسب له ، وليس بول الآدمي بأقذر من سائر النجاسات ، بل قد يساويه غيره ، أو يرجح عليه فلا يبقى لتخصيصه دون غيره بالنسبة إلى المنع معنى .

                                        فيحمل الحديث على أن ذكر البول ورد تنبيها على غيره ، مما يشاركه في معناه من الاستقذار . والوقوف على مجرد الظاهر ههنا - مع وضوح المعنى ، وشموله لسائر الأنجاس - ظاهرية محضة .

                                        وأما مالك رحمه الله تعالى : فإذا حمل النهي على الكراهية يستمر حكم الحديث في القليل والكثير ، غير المستثنى بالاتفاق [ وهو المستبحر ] مع حصول الإجماع على تحريم الاغتسال بعد تغير الماء بالبول .

                                        فهذا يلتفت إلى حمل اللفظ الواحد إلى معنيين مختلفين ، وهي مسألة أصولية .

                                        فإن جعلنا النهي للتحريم : كان استعماله في الكراهة والتحريم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه .

                                        والأكثرون على منعه .

                                        والله أعلم . [ ص: 75 ] وقد يقال على هذا : إن حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ . فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين . وهذا متجه ، إلا أنه يلزم منه التخصيص في هذا الحديث . والمخصص : الإجماع على نجاسة المتغير ] .

                                        الوجه الثاني : اعلم أن النهي عن الاغتسال لا يخص الغسل ، بل التوضؤ في معناه .

                                        وقد ورد مصرحا به في بعض الروايات { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ثم يتوضأ منه } ولو لم يرد لكان معلوما قطعا ، لاستواء الوضوء والغسل في هذا الحكم ، لفهم المعنى الذي ذكرناه ، وأن المقصود : التنزه عن التقرب إلى الله سبحانه بالمستقذرات .

                                        الثالث : ورد في بعض الروايات " ثم يغتسل منه " وفي بعضها " ثم يغتسل فيه " ومعناهما مختلف ، يفيد كل واحد منهما حكما بطريق النص وآخر بطريق الاستنباط ، ولو لم يرد فيه لفظة " فيه " لاستويا ، لما ذكرنا .

                                        الرابع : مما يعلم بطلانه قطعا : ما ذهبت إليه الظاهرية الجامدة : من أن الحكم مخصوص بالبول في الماء حتى لو بال في كوز وصبه في الماء : لم يضر عندهم . أو لو بال خارج الماء فجرى البول إلى الماء : لم يضر عندهم أيضا . والعلم القطعي حاصل ببطلان قولهم .

                                        لاستواء الأمرين في الحصول في الماء وأن المقصود : اجتناب ما وقعت فيه النجاسة من الماء .

                                        وليس هذا من مجال الظنون ، بل هو مقطوع به .

                                        وأما الرواية الثانية : وهي قوله صلى الله عليه وسلم { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } فقد استدل به على مسألة المستعمل وأن الاغتسال في الماء يفسده .

                                        ; لأن النهي وارد ههنا على مجرد الغسل .

                                        فدل على وقوع المفسدة بمجرده .

                                        وهي [ ص: 76 ] خروجه عن كونه أهلا للتطهير به : إما لنجاسته ، أو لعدم طهوريته ومع هذا فلا بد فيه من التخصيص .

                                        فإن الماء الكثير - إما القلتان فما زاد على مذهب الشافعي ، أو المستبحر على مذهب أبي حنيفة - لا يؤثر فيه الاستعمال .

                                        ومالك لما رأى أن الماء المستعمل طهور ، غير أنه مكروه : يحمل هذا النهي على الكراهة .

                                        وقد يرجحه : أن وجوه الانتفاع بالماء لا تختص بالتطهير .

                                        والحديث عام في النهي .

                                        فإذا حمل على التحريم لمفسدة خروج الماء عن الطهورية : لم يناسب ذلك ; لأن بعض مصالح الماء تبقى بعد كونه خارجا عن الطهورية ، وإذا حمل على الكراهة : كانت المفسدة عامة ; لأنه يستقذر بعد الاغتسال فيه .

                                        وذلك ضرر بالنسبة إلى من يريد استعماله في طهارة أو شرب ، فيستمر النهي بالنسبة إلى المفاسد المتوقعة ، إلا أن فيه حمل اللفظ على المجاز ، أعني حمل النهي على الكراهة .

                                        فإنه حقيقة في التحريم .




                                        الخدمات العلمية