الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 27 ] ( فصل ) : الإنشاء ينقسم إلى ما اتفق الناس عليه وإلى ما اختلفوا فيه فالمجمع عليه أربعة أقسام :

( القسم الأول ) القسم نحو قولنا أقسم بالله لقد قام زيد ونحوه فإن مقتضى هذه الصيغة أنه أخبر بالفعل المضارع أنه سيكون منه قسم في المستقبل فكان ينبغي أن لا تلزمه كفارة بهذا القول ؛ لأنه وعد بالقسم لا قسم كقول القائل أعطيك درهما فإنه وعد بالإعطاء لكن لما وقع الاتفاق على أنه بهذا اللفظ أقسم ، وأن موجب القسم يلزمه دل ذلك على أنه أنشأ به القسم لا أنه أخبر به عن وقوعه في المستقبل ، وهذا أمر اتفق عليه الجاهلية والإسلام ، ولذلك لا يحتمل التصديق والتكذيب وجميع لوازم الإنشاء موجودة فيه فدل ذلك على أنه إنشاء ، ولذلك يقول فيه من أحاط بذلك من فضلاء النحاة القسم جملة إنشائية يؤكد بها جملة خبرية .

( القسم الثاني ) الأوامر والنواهي إنشاء متفق عليه في الجاهلية والإسلام فإن قول القائل افعل لا تفعل يتبعه إلزام الفعل أو الترك ، ويترتب عليه ولا يحتمل التصديق والتكذيب ولا يقبل لوازم الخبر ، ويلزمه جميع لوازم الإنشاء فيكون إنشاء .

( القسم الثالث ) الترجي نحو لعل الله يأتينا بخير والتمني نحو ليت لي مالا فأنفق منه ، والعرض نحو ألا تنزل عندنا فتصيب خيرا ، والتحضيض وصيغه أربع وهي ألا وهلا ولو ما ولولا نحو ألا تشتغل بالعلم وهلا اشتغلت به ولو ما اشتغلت به فإن هذه الصيغ كلها للطلب ويتبعها الطلب ، ويترتب عليها ولا تقبل التصديق ولا التكذيب فهي كالأوامر والنواهي إنشاء كما تقدم .

( القسم الرابع ) النداء نحو يا زيد اختلف فيه النحاة هل فيه فعل مضمر تقديره أنادي زيدا أو الحرف وحده مفيد للنداء ؟ فقيل على الأول لو كان الفعل مضمرا والتقدير أنادي زيدا لقبل التصديق والتكذيب ، أجاب المبرد عن ذلك بأن الفعل مضمر ولا يلزم قبوله التصديق والتكذيب ؛ لأنه إنشاء والإنشاء لا يقبلهما ويؤكد الإنشاء في النداء أنه طلب لحضور المنادى ، والطلب إنشاء نحو الأوامر والنواهي فهو مما اتفق على أنه إنشاء لكن الخلاف في الإضمار وعدمه فقط فهذه الأقسام متفق عليها في الجاهلية والإسلام .

( وأما المختلف فيه ) هل هو إنشاء أو خبر فهي صيغ العقود نحو بعت واشتريت وأنت حر وامرأتي [ ص: 28 ] طالق ونحو ذلك . قالت الحنفية إنها إخبارات على أصلها اللغوي ، وقال غيرهم إنها إنشاءات منقولة عن الخبر إليه احتج هؤلاء بأمور :

( أحدها ) أنها لو كانت إخبارا لكانت كاذبة ؛ لأنه لم يبع قبل ذلك الوقت ولم يطلق ، والكذب لا عبرة به لكنها معتبرة فدل ذلك على أنها ليست إخبارا بل إنشاء لحصول لوازم الإنشاء فيها من استتباعاته لمدلولاتها وغير ذلك من اللوازم .

( وثانيها ) أنها لو كانت إخبارا لكانت إما كاذبة ولا عبرة بها أو صادقة فتكون متوقفة على تقدم أحكامها فحينئذ إما أن تتوقف عليها أيضا فيلزم الدور أو لا تتوقف عليها فيلزم أن يطلق امرأته أو يعتق عبده ، وهو ساكت وذلك خلاف الإجماع .

( وثالثها ) أنها لو كانت إخبارا فإما أن تكون خبرا عن الماضي أو الحاضر وحينئذ يتعذر تعليقها على الشرط ؛ لأن من شرط الشرط أن لا يتعلق إلا بمستقبل أو خبر عن المستقبل وحينئذ لا يزيد على التصريح بذلك ، وهو لو صرح وقال لامرأته ستصيرين طالقا لم تطلق بهذا اللفظ ، وكذلك ما في معناه .

( ورابعها ) أنه لو قال للمطلقة الرجعية أنت طالق لزمه طلقة أخرى مع أن إخباره صادق باعتبار الطلقة المتقدمة فلا حاجة إلى طلقة أخرى لكن لما لزمه طلقة أخرى دل ذلك على أن هذه الصيغة منشئة للطلاق .

( وخامسها ) قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } والأمر بالطلاق لا يمكن أن يكون عائدا على التحريم فإن التحريم صفة من صفات الله تعالى وكلامه النفساني لا يتعلق به كسب ولا اختراع فتعيين صرفه لأمر آخر يقتضيه ويستلزمه [ ص: 29 ] توفية باللفظ الدال على الطلب ، وما ذلك إلا قول القائل أنت طالق فدل ذلك على أن هذه الصيغة سبب التحريم ، ويترتب عليها التحريم ولا نعني بكونها إنشاء إلا ذلك .

( وسادسها ) أن الإنشاء هو المتبادر في العرف إلى الفهم فوجب أن يكون منقولا إليه كسائر المنقولات ، والجواب قالت الحنفية أما الأول فإنما يلزم أن يكون كذبا أن لو لم يقدر فيها صاحب الشرع تقدم مدلولاتها قبل النطق بها بالزمن الفرد لضرورة تصديق المتكلم بها لكن الإضمار أولى من النقل لما تقرر في علم الأصول ، ولأن جواز الإضمار في الكلام مجمع عليه ، والنقل مختلف فيه والمجمع عليه أولى ومتى كان المدلول مقدرا قبل الخبر كان الخبر صادقا ، فلا يلزم الكذب ولا النقل للإنشاء ، وبقيت إخبارات على موضوعاتها اللغوية وعملنا بالأصل في عدم النقل وأنتم خالفتموه . وعن الثاني أن الدور غير لازم ؛ لأن النطق باللفظ لا يتوقف على شيء ، وبعده يقدر تقدم المدلول وبعد تقدير المدلول يحصل الصدق ويلزم الحكم ، فالصدق متوقف مطلقا واللفظ متوقف عليه مطلقا ، والتقدير متوقف على النطق ويتوقف عليه الصدق فههنا ثلاثة أمور مترتبة بعضها على بعض ، وليس فيها ما هو قبل الآخر وبعده حتى يلزم الدور بل هي كالابن والأب والجد في الترتيب والتوقف فاندفع الدور .

وعن الثالث أنا نلتزم أنها إخبارات عن الماضي ، ولا يتعذر التعليق وبيانه أن الماضي له تفسير أن أحدهما ماض تقدم مدلوله قبل النطق به من غير تقدير فهذا يتعذر تعليقه ؛ لأن معنى التعليق [ ص: 30 ] توقيف أمر في دخوله في الوجود على دخول أمر آخر في الوجود ، وهو الشرط وما دخل في الوجود وتحقق لا يمكن توقيف دخوله في الوجود على غيره فلأجل ذلك تعذر تعليق الماضي المحقق ، وثانيهما ماض بالتقدير لا بالتحقيق فهذا يصح تعليقه وتقديره أنه إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار فقد أخبر عن ارتباط طلاق امرأته بدخول الدار فيقدر صاحب الشرع هذا الارتباط قبل نطقه به بالزمن الفرد لضرورة تصديقه ، وإذا قدر الارتباط قبل النطق صار الإخبار عن الارتباط ماضيا ؛ لأن حقيقة الماضي هو الذي مخبره قبل خبره ، وهذا كذلك بالتقدير فيكون ماضيا مع التعليق فقد اجتمع المضي والتعليق بهذا التفسير ، ولم يناف المضي التعليق فتأمله فهو دقيق في باب التقديرات ، وعن الرابع أن المطلقة الرجعية إذا قال لها أنت طالق إن أراد الإخبار عن الطلقة الماضية لم تلزمه طلقة ثانية .

وإن لزم الإخبار عن طلقة ثانية فهو إخبار كاذب لعدم تقدم وقوع ثانية فيحتاج للتقدير لضرورة التصديق فتلزمه الثانية بالتقدير كالأولى فقولكم إن المطلقة الرجعية تستغني عن التقدير غير مسلم بل هي وغيرها سواء ، وإنما يلزم الفرق بينها وبين غيرها إذا كان قوله أنت طالق إخبارا عن الطلقة الأولى ، وليس كذلك ، وعن الخامس أن الأمر عندنا متعلق بإيجاد خبر يقدر الشرع قبله الطلاق فيلزم الطلاق لا إنشاء الطلاق حتى يكون اللفظ سببا كما ذكرتموه بل خبرا صرفا مع التقدير ، وهذا أمر ممكن متصور فلا حاجة إلى مخالفة الأصل بالنقل والعدول عن اللغة الصريحة فهذه أجوبة حسنة للحنفية

( وأما الوجه السادس ) فلا يتأتى الجواب عنه إلا بالمكابرة فإن المبادرة [ ص: 31 ] للإنشاء والعدول عن الخبر مدرك لنا بالعقول بالضرورة ولا نجد في أنفسنا أن القائل لامرأته أنت طالق أنه يحسن تصديقه وتكذيبه بما ذكروه من التقدير والبحث في هذا المقام يعتمد التناصف في الوجدان ، فمن لم ينصف يقل ما شاء .

وأما الأجوبة المتقدمة عن بقية الوجوه فمتجهة صحيحة ، والسادس هو العمدة المحققة والله أعلم . فهذا تلخيص هذه المباحث من الجهتين على أتم الوجوه ولم أرها لأحد من الحنفية والشافعية ولا غيرهم على هذا الوجه وكل ذلك من فضل الله تعالى .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال شهاب الدين [ ص: 27 ] فصل الإنشاء ينقسم إلى ما اتفق الناس عليه إلى آخر كلامه في القسم الرابع ) قلت جميع ما قاله في ذلك ظاهر صحيح غير قوله في القسم الأول فإن مقتضى هذه الصيغة أنه أخبر بالفعل المضارع أنه سيكون منه قسم في المستقبل فإنه ليس بصحيح مع تسليم ما حكاه من الإجماع عن أهل الجاهلية والإسلام أنه بهذا اللفظ أنشأ القسم ، وإذا كان الأمر كما قال عندهم وهم جميع أهل اللسان فكون تلك الصيغة مقتضاها الإخبار إنما يكون عند غير أهل اللسان ولا اعتبار بهم ولا حجة فيهم .

قال ( وأما المختلف فيه هل هو إنشاء أو خبر فهي صيغ العقود نحو بعت واشتريت وأنت حر وامرأتي [ ص: 28 ] طالق ونحو ذلك قالت الحنفية إنها إخبارات على أصلها اللغوي .

وقال غيرهم إنها إنشاءات منقولة عن الخبر إليه احتج هؤلاء بأمور أحدها أنها لو كانت إخبارا لكانت كاذبة ؛ لأنه لم يبع قبل ذلك الوقت ولم يطلق . والكذب لا عبرة به لكنها معتبرة فدل ذلك على أنها ليست إخبارا بل إنشاء لحصول لوازم الإنشاء فيها من استتباعها لمدلولاتها وغير ذلك من اللوازم وثانيها أنها لو كانت إخبارا لكانت إما كاذبة ولا عبرة بها أو صادقة فتكون متوقفة على تقدم أحكامها ، وحينئذ إما أن تتوقف عليها أيضا فيلزم الدور أو لا تتوقف عليها فيلزم أن يطلق امرأته أو يعتق عبده . وهو ساكت وذلك خلاف الإجماع ، وثالثها أنها لو كانت إخبارا فإما أن تكون خبرا عن الماضي أو الحاضر ، وحينئذ يتعذر تعليقها على الشرط ؛ لأن من شرط الشرط أن لا يتعلق إلا بمستقبل أو خبر عن مستقبل ، وحينئذ لا يزيد على التصريح بذلك وهو لو صرح وقال لامرأته ستصيرين طالقا لم تطلق بهذا اللفظ . وكذلك ما في معناه ورابعها أنه لو قال للمطلقة الرجعية أنت طالق لزمه طلقة أخرى مع أن إخباره صادق باعتبار الطلقة المتقدمة فلا حاجة إلى طلقة أخرى لكن لما لزمه طلقة أخرى دل ذلك على أن هذه الصيغة منشئة للطلاق ، وخامسها قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } والأمر بالطلاق لا يمكن أن يكون عائدا على التحريم فإن التحريم صفة من صفات الله تعالى وكلامه النفساني لا يتعلق به كسب ولا اختراع فتعين صرفه لأمر آخر يقتضيه ويستلزمه [ ص: 29 ] توفية باللفظ الدال على الطلب ، وما ذلك إلا قول القائل أنت طالق فدل ذلك على أن هذه الصيغة سبب التحريم ، ويترتب عليها التحريم . ولا نعني بكونها إنشاء إلا ذلك ، وسادسها أن الإنشاء هو المتبادر في العرف إلى الفهم فوجب أن يكون منقولا إليه كسائر المنقولات .

والجواب قالت الحنفية أما الأول فإنما يلزم أن يكون كذبا إن لو لم يقدر فيها صاحب الشرع تقدم مدلولاتها قبل النطق بها بالزمن الفرد لضرورة تصديق المتكلم بها لكن الإضمار أولى من النقل لما تقرر في علم الأصول ، ولأن جواز الإضمار في الكلام مجمع عليه والنقل مختلف فيه والمجمع عليه أولى . ومتى كان المدلول مقدرا قبل الخبر كان الخبر صادقا فلا يلزم الكذب ولا النقل للإنشاء وبقيت إخبارات على موضوعاتها اللغوية وعملنا بالأصل في عدم النقل ، وأنتم خالفتموه وعن الثاني أن الدور غير لازم ؛ لأن النطق باللفظ لا يتوقف على شيء وبعده يقدر تقدم المدلول وبعد تقدير المدلول يحصل الصدق ، ويلزم الحكم فالصدق متوقف مطلقا واللفظ متوقف عليه مطلقا ، والتقدير متوقف على النطق ويتوقف عليه الصدق فههنا ثلاثة أمور مترتبة بعضها بعد بعض ، وليس فيها ما هو قبل الآخر وبعده حتى يلزم الدور بل هي كالابن والأب والجد في الترتيب والتوقف فاندفع الدور ، وعن الثالث أنا نلتزم أنها إخبارات عن الماضي ولا يتعذر التعليق ، وبيانه أن الماضي له تفسير أن أحدهما ماض تقدم مدلوله قبل النطق به من غير تقدير فهذا يتعذر تعليقه ؛ لأن معنى التعليق [ ص: 30 ] توقيف أمر في دخوله في الوجود على دخول أمر آخر في الوجود ، وهو الشرط وما دخل في الوجود وتحقق لا يمكن توقيف دخوله في الوجود على غيره فلذلك تعذر تعليق الماضي المحقق ، وثانيهما ماض بالتقدير لا بالتحقيق فهذا يصح تعليقه . وتقديره أنه إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار فقد أخبر عن ارتباط طلاق امرأته بدخول الدار فيقدر صاحب الشرع هذا الارتباط قبل نطقه بالزمن الفرد لضرورة تصديقه وإذا قدر الارتباط قبل النطق صار الإخبار عن الارتباط ماضيا ؛ لأن حقيقة الماضي هو الذي مخبره قبل خبره ، وهذا كذلك بالتقدير فيكون ماضيا مع التعليق فقد اجتمع التعليق والمضي بهذا التفسير ولم يناف المضي التعليق فتأمله وعن الرابع أن المطلقة الرجعية إذا قال لها أنت طالق إن أراد الإخبار عن الطلقة الماضية لم يلزمه طلقة ثانية ، وإن قصد الإخبار عن طلقة ثانية فهو إخبار كاذب لعدم تقدم وقوع ثانية فيحتاج للتقدير لضرورة التصديق فتلزمه الثانية بالتقدير كالأولى ، فقولكم إن المطلقة الرجعية تستغني عن التقدير غير مسلم بل هي وغيرها سواء ، وإنما يلزم الفرق بينها وبين غيرها إذا كان قوله أنت طالق إخبارا عن الطلقة الأولى ، وليس كذلك وعن الخامس أن الأمر عندنا متعلق بإيجاد خبر يقدر الشرع قبله الطلاق فيلزم الطلاق لا إنشاء الطلاق حتى يكون اللفظ سببا كما ذكرتموه بل خبرا صرفا مع التقدير . وهذا أمر ممكن متصور فلا حاجة إلى مخالفة الأصل بالنقل والعدول عن اللغة الصريحة فهذه أجوبة حسنة للحنفية وأما الوجه السادس فلا يتأتى الجواب عنه إلا بالمكابرة فإن المبادرة [ ص: 31 ] للإنشاء والعدول عن الخبر مدرك لنا بالعقول بالضرورة ولا نجد في أنفسنا أن القائل لامرأته أنت طالق أنه يحسن تصديقه بما ذكروه من التقدير . والبحث في هذا المقام يعتمد التناصف في الوجدان فمن لم ينصف يقل ما شاء )

قلت أما احتجاجات غير الحنفية فصحيحة على تقدير أن المرام الظن حاشا الأخير منها فهو قوي يمكن فيه ادعاء القطع ، وأما جوابات الحنفية فضعيفة أما الأول فمبني على إلجاء ضرورة صدق المتكلم بها إلى تقدير تقدم مدلولاتها ، وصدق المتكلم مبني على أن كلامه خبر وهو محل النزاع وقولهم في هذا الجواب ، ولأن جواز الإضمار متفق عليه والنقل مختلف فيه ، والمجمع عليه أولى مسلم لكن ليس ما نحن فيه من ذلك فإن ما نحن فيه مفتقرا إلى تقدير وقوع ما لم يقع ثم إضماره أو إلى تقدير وقوعه دون إضماره ، وتقدير وقوع ما لم يقع ليس هو الإضمار فعلى كلا الوجهين ليس ما نحن فيه من الإضمار المتفق عليه ، وأما الجواب الثاني فقولهم فيه وبعد تقدير المدلول يحصل الصدق ليس بصحيح بل لا يحصل إلا تقدير الصدق .

وأما الصدق فلا وكيف تحصل حقيقة الصدق بناء على تقدير وقوع ما لم يقع ، هذا واضح السقوط والبطلان ، وأما الجواب الثالث فمبني على ضرورة صدق المتكلم ، وضرورة الصدق مبنية على كون كلامه خبرا ، وهو محل النزاع كما تقدم في الجواب الأول ، وأما الجواب الرابع فمبني أيضا على ضرورة الصدق وفيه ما في الأول والثالث .

وأما الجواب الخامس فهو أشبه أجوبتهم ومقتضاه إبداء احتمال في متعلق الأمر ، وهو غير مدفوع لكنه مرجوح بصحة الاحتجاجات السابقة ، ومتروك بالاحتجاج السادس إن صح قاطعا ، وأما السادس من الاحتجاجات فلم يذكر لهم عنه جوابا فكفى فيه المؤنة .

وما قاله من أن الجواب عن هذا الاحتجاج لا يتأتى إلا بالمكابرة صحيح والله أعلم . .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( فصل ) ينقسم الإنشاء إلى مجمع عليه في الجاهلية والإسلام ومختلف فيه ، والمجمع عليه أربعة أقسام :

( الأول ) القسم كقولنا أقسم بالله لقد قام زيد اتفق أهل اللسان من الجاهلية والإسلام على أن قائله أنشأ به القسم لا أنه أخبر به عن وقوع في المستقبل فجميع لوازم الإنشاء موجودة فيه ، ولا يلزمه الصدق ولا الكذب فلذلك قال بعض فضلاء النحاة القسم جملة إنشائية يؤكد بها جملة خبرية .

( القسم الثاني ) الأوامر والنواهي نحو قولنا : افعل لا تفعل اتفق الجاهلية والإسلام [ ص: 27 ] على أنه إنشاء ؛ لأنه يتبعه إلزام الفعل أو الترك ، ويترتب عليه ويلزمه جميع لوازم الإنشاء ، ولا يلزمه الصدق ولا الكذب .

( القسم الثالث ) الترجي نحو لعل الله يأتينا بخير ، والتمني نحو ليت لي مالا فأنفق منه ، والعرض نحو ألا تنزل عندنا فتصيب خيرا .

والتحضيض وصيغه أربع : وهي ألا بالتشديد نحو ألا تشتغل بالعلم ، وهلا ولو ما ولولا ، نحو هلا أو لو ما أو لولا اشتغلت به فإن هذه الصيغ كلها إما للطلب أو يتبعها الطلب ، ويترتب عليها ولا يلزمها صدق ولا كذب فهي كالأوامر والنواهي إنشاء .

( القسم الرابع ) النداء نحو يا زيد اتفق أنه إنشاء لأنه طلب لحضور المنادى ، والطلب إنشاء نحو الأوامر والنواهي ، وإنما اختلف النحاة في أن المفيد للنداء الحرف وحده أو فعل مضمر تقديره أنادي زيدا .

قال المبرد وهذا الفعل المضمر لا يلزمه الصدق ولا الكذب حتى يكون خبرا فهو إنشاء لطلب حضور المنادى ( والمختلف فيه ) قسمان : أحدهما صيغ العقود كبعت واشتريت وأنت حر وامرأتي طالق . قالت الأحناف إنها إخبارات على أصلها اللغوي ، وقال غيرهم إنها إنشاءات منقولة عن الخبر إليه محتجين أولا بأمر يمكن فيه ادعاء القطع ولا يتأتى للأحناف الجواب عنه إلا بالمكابرة ، وهو أن الإنشاء هو المتبادر في العرف إلى الفهم فوجب أن يكون منقولا إليه كسائر المنقولات ، وذلك أن المبادرة للإنشاء والعدول إلى الخبر مدرك لنا بالعقول بالضرورة ، ولا نجد في أنفسنا أن القائل لامرأته أنت طالق أنه يحسن تصديقه أو تكذيبه والمصنف يعتمد الوجدان ومن لم ينصف يقل ما شاء ، وثانيا بخمسة أمور مبنية على تقدير أن المراد الظن لا القطع .

أحدها أنها لو كانت إخبارا لكانت كاذبة لأنه لم يبع قبل ذلك الوقت ولم يطلق والكذب لا عبرة به لكنها معتبرة فدل ذلك على أنها ليست إخبارا بل إنشاء لحصول لزوم الإنشاء فيها من استتباعاته لمدلولاتها وغير ذلك .

وأجاب الأحناف بأن صاحب الشرع قدر في هذه الصيغ تقدم مدلولاتها قبل النطق بها بالزمن الفرد لضرورة تصديق المتكلم بها ، والإضمار أولى من النقل لما تقرر [ ص: 28 ] في علم الأصول ، ولأن جواز الإضمار في الكلام مجمع عليه ، والنقل مختلف فيه والمجمع عليه أولى ومتى كان المدلول مقدرا قبل الخبر كان الخبر صادقا فلا يلزم الكذب ولا النقل للإنشاء ، وبقيت إخبارات على موضوعاتها اللغوية وعملنا بالأصل في عدم النقل ، وأنتم خالفتموه وفيه نظر بوجهين

الوجه الأول أن بناءه على إلجاء ضرورة صدق المتكلم بها إلى تقدير تقدم مدلولاتها لا يصح ؛ لأن صدق المتكلم مبني على أن كلامه خبر وهو محل النزاع .

الوجه الثاني أنا لا نسلم أن ما نحن فيه من الإضمار المتفق عليه ضرورة أنه مفتقر إلى تقدير وقوع ما لم يقع ، ثم إضماره أو إلى تقدير وقوعه دون إضماره ، وتقدير وقوع ما لم يقع ليس هو الإضمار

وثانيها أنها لو كانت إخبارا لكانت إما كاذبة ولا عبرة بها أو صادقة فتكون متوقفة على تقدم أحكامها فحينئذ إما أن تتوقف عليها أيضا فيلزم الدور أو لا تتوقف عليها فيلزم أن يطلق امرأته أو يعتق عبده ، وهو ساكت وذلك خلاف الإجماع .

وأجاب الأحناف بأن الدور غير لازم ؛ لأن النطق باللفظ لا يتوقف على شيء وبعده يقدر تقدم المدلول وبعد تقدير المدلول يحصل الصدق ويلزم الحكم فالصدق متوقف مطلقا على التقدير والمتوقف عليه التقدير مطلقا اللفظ ، فالثلاثة أمور مترتبة بعضها على بعض ترتب الابن والأب والجد ، وليس فيها ما هو قبل الآخر وبعده وفيه أنه لا يحصل بعد تقدير المدلول إلا تقدير الصدق إذ كيف تحصل حقيقة الصدق بناء على تقدير وقوع ما لم يقع .

وثالثها أنها لو كانت إخبارا فإما أن تكون خبرا عن الماضي أو الحاضر فيتعذر تعليقها عن الشرط حينئذ إذ من شرط الشرط أن لا يتعلق بمستقبل أو تكون خبرا عن المستقبل فيصح تعليقها على الشرط لكن لا يزيد على التصريح بذلك حينئذ ، وهو لو صرح وقال لامرأته ستصيرين طالقا لم تطلق بهذا اللفظ ، وكذلك ما في معناه .

وأجاب الأحناف بالتزام أنها إخبارات عن الماضي ومنع تعذر التعليق عن الماضي مطلقا بل على خصوص الماضي المحقق لا المقدر كما هنا ، وذلك لأن معنى التعليق [ ص: 29 ] توقيف أمر في دخوله في الوجود على دخول أمر آخر في الوجود وهو الشرط ، وما دخل في الوجود وتحقق لا يمكن توقيف دخوله في الوجود على غيره بخلاف ما كان دخوله في الوجود غير محقق بل مقدر فإنه يمكن توقيف دخوله في الوجود على غيره فإذا قال لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدار فقد أخبر عن ارتباط طلاق امرأته بدخول الدار فيقدر صاحب الشرع هذا الارتباط قبل نطقه به بالزمن الفرد لضرورة تصديقه ، وإذا قدر الارتباط قبل النطق صار الإخبار عن الارتباط ماضيا ؛ لأن حقيقة الماضي هو الذي مخبره قبل خبره ، وهذا كذلك بالتقدير فيكون ماضيا مع التعليق فقد اجتمع المضي والتعليق بهذا التفسير ، ولم يناف المضي التعليق فتأمله فهو دقيق في باب التقديرات ، وفيه أنه مبني على ضرورة صدق المتكلم ، وضرورة الصدق مبنية على كون كلامه خبرا ، وهو محل النزاع كما تقدم في الجواب عن الاحتجاج الأول .

ورابعها : أن لزوم طلقة أخرى لمن قال لمطلقته الرجعية أنت طالق بلا خلاف مع أن إخباره صادق باعتبار الطلقة المتقدمة دليل على أن هذه الصيغة منشئة للطلاق .

وأجاب الأحناف بأن قائل ذلك لمطلقته الرجعية إن أراد الإخبار عن الطلقة الماضية لم تلزمه طلقة ثانية ، وإن قصد الإخبار عن طلقة ثانية فهو إخبار كاذب لعدم تقدم وقوع ثانية فيحتاج للتقدير لضرورة التصديق فيلزمه الثانية بالتقدير كالأولى ، فالمطلقة الرجعية وغيرها سواء في عدم الاستغناء عن التقدير ، وإنما يلزم الفرق بينها إذا كان قوله أنت طالق إخبارا عن الطلقة الأولى وليس كذلك ، وهذا الجواب أيضا مبني على ضرورة الصدق وفيه ما في الجوابين عن الاحتجاج الأول والثالث فلا تغفل

. وخامسها قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } أمر بالطلاق ، والأمر به لا يمكن أن يكون عائدا على التحريم فإن التحريم صفة من صفات الله تعالى وكلامه النفساني لا يتعلق به كسب ولا اختراع فتعين صرفه لأمر آخر يستلزمه توفيته باللفظ الدال على الطلب وما ذلك الأمر إلا قول القائل أنت طالق فدل [ ص: 30 ] ذلك على أن هذه الصيغة سبب التحريم ، ويترتب عليها التحريم ولا نعني بكونها إنشاء إلا ذلك .

وأجاب الأحناف بأن الأمر عندنا متعلق بإيجاد خبر يقدر الشرع قبله الطلاق فيلزم الطلاق لا بإيجاد إنشاء الطلاق حتى يكون اللفظ سببا كما ذكرتموه بل خبرا صرفا مع التقدير ، وهذا أمر ممكن متصور فلا حاجة إلى مخالفة الأصل بالنقل والعدول عن اللغة الصريحة ، ومقتضى هذا الجواب إبداء احتمال في متعلق الأمر ، وهو وإن كان أشبه أجوبتهم وغير مدفوع إلا أنه مرجوح بصحة الاحتجاجات الخمسة السابقة ، ومتروك بالاحتجاج الذي قبل الخمسة إن صح قاطعا إذ يكفي في متونته أنه لم يذكر لهم عنه جواب وأن صحة الجواب عنه لا تتأتى إلا بالمكابرة فافهم .

والقسم الثاني صيغ الحمد والذكر والتنزيه ونحوها قال العلامة الشربيني رأيت عن بعضهم فيها حكاية قولين : لزوم القصد أي قصد الإنشاء وعدمه ، ولعل الأول مبني على عدم تسليم النقل فيها بناء على ما قاله بعض إن القول بأنه مشترك بين الإخبار والإنشاء كصيغ العقود لا يلتفت إليه ؛ لأن صيغ العقود نقلها الشرع إلى الإنشاء لمصلحة الأحكام وإثبات النقل لما نحن فيه أي من نحو صيغ الحمد بلا ضرورة داعية مشكل جدا فالحق أنها أخبار استعملت في الإنشاء مجازا ؛ لأن قصد الإخبار بها بعيد ا هـ .

والمجاز إما مرسل بنقل لفظ الجملة من الإثبات على وجه الإخبار إلى مطلق الإثبات ثم استعماله في الإثبات على وجه الإنشاء إما من جهة كونه فردا فيكون بمرتبة للتقييد أو من جهة خصوصه فيكون بمرتبتين أي نقلتين للتقييد ، ثم الإطلاق أو بالاستعارة المركبة الغير التمثيلية بتشبيه الإنشاء بالخبر إما بناء على التضاد المنزل منزلة التناسب ، وإما في تحقق الوقوع حتى كأنه واقع ويستحق الإخبار عنه لما للعصام من أن التجوز هنا باعتبار الهيئة التركيبية وفي التمثيلية باعتبار مجموع مادة المركب الموضوع للهيئة المعنوية الحاصلة من اجتماع معاني مفرداته في الذهن .

قال العطار وعلى تقدير خبريتها أي صيغة الحمد [ ص: 31 ] يقال : إن هذه الجملة لم يقصد بها إخبار أحد بل قصد بها تحصيل الحمد كبقية صيغ الأذكار والتنزيهات ، وكيف لا تكون كذلك ومن الذي قصد إخباره حتى تكون الإفادة له ولو فرض مخاطب قصد إخباره لكان الإخبار به كالإخبار بقولنا السماء فوقنا وقد مر عن علاء الدين النجاري أن الجمل الخبرية لا يلزمها الإخبار بل قد تكون للتحسر والتحزن فيجوز أن يكون الغرض من هذه القضية الثناء على الله والتحميد فيكون قائلها حامدا كما كانت امرأة عمران متحسرة ولا تخرج بذلك عن كونها محتملة للصدق والكذب ؛ لأنها إذا نظر لمجرد مفهومها تحتملها وهذا هو الفاصل للخبر عن الإنشاء .

ا هـ بتغيير وتصرف ( قلت ) وعلى هذا فصيغة الحمد والذكر والتنزيه ونحوها من قبيل الكناية إما بمعنى اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لملاحظة علاقته مع جواز إرادته معه ، أو بمعنى اللفظ المستعمل فيما وضع له لكن لا ليكون مقصودا بالذات بل لينتقل منه إلى لازمه المقصود بالذات لما بينهما من العلاقة على الطريقتين فيها من كونه واسطة بين الحقيقة والمجاز أو حقيقة كما في رسالة الصبان البيانية وفي حاشية الأنبابي عليها ما حاصله أن الجملة الخبرية كثيرا ما تورد مرادا بها معناها أي مفهومها المحتمل للصدق والكذب لأغراض أخر سوى إفادة الحكم أي الإعلام بمضمونها أو لازمه أي كون المتكلم عالما به كالتحسر ونحوه من المعاني الإنشائية بدون استعمالها في ذلك الغرض بل يراد بطريق الكناية فيما فيه علاقتها من اللزوم الخاص أو بطريق التعريض في غيره أي فهي حينئذ جملة خبرية خارجة عن الأصل في الخبر من الإعلام بمضمونه يقال للمتكلم بها مخبر لا معلم ؛ لأن الإعلام في العرف التلفظ بالجملة الخبرية مرادا بها معناه ، وإن لم يحصل بها العلم ولذا يعتق الكل فيما إذا قال من أخبرني بقدوم زيد فهو حر ، وأخبروه على التعاقب كما صرح به السعد في شرح الكشاف




الخدمات العلمية