الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 186 ] 179 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العيدين يجتمعان في اليوم الواحد

1153 - حدثنا علي بن معبد قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير الكرماني قال : حدثنا إسرائيل بن يونس ، عن عثمان بن المغيرة قال : سمعت إياس بن أبي رملة قال : سمعت معاوية بن أبي سفيان ، وهو يسأل زيد بن أرقم قال : شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا في يوم واحد ؟ فقال : نعم . فقال : فكيف صنع ؟ قال : صلى ، ثم رخص في الجمعة ؛ فقال : من شاء أن يصلي فليصل .

[ ص: 187 ] قال أبو جعفر : وعثمان هذا هو ابن عم الحجاج بن يوسف .

1154 - حدثنا بكار بن قتيبة قال : حدثنا أبو داود صاحب الطيالسة قال : حدثنا إسرائيل قال : حدثنا عثمان بن المغيرة بن أبي زرعة من آل أبي عقيل ، عن إياس بن أبي رملة الشامي قال : شهدت معاوية سأل زيد بن أرقم : أشهدت عيدين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعا ؟ قال : نعم . قال : فما صنع ؟ قال : صلى العيد ، ورخص في الجمعة ؛ من شاء أن يجلس فليجلس .

فسأل سائل عن المراد بما في هذين الحديثين بعد استعظامه ما فيهما من الرخصة في ترك الجمعة ، ونفى ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: كيف يكون لأحد أن يتخلف عن الجمعة مع قول الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله . الآية ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه : أن المرادين بالرخصة في ترك الجمعة في هذين الحديثين هم أهل العوالي الذين منازلهم خارجة عن المدينة ممن ليست الجمعة عليهم واجبة ؛ لأنهم في غير مصر من الأمصار ، والجمعة فإنما تجب على أهل الأمصار . وفي [ ص: 188 ] الأمصار دون ما سوى ذلك ، كما روي عن علي عليه السلام في ذلك مما نحيط علما أنه لم يقله رأيا ؛ إذ كان مثله لا يقال بالرأي ، وأنه لم يقله إلا توقيفا ولا توقيف يوجد في ذلك إلا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وهو ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد الإيامي قال : سمعت سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي عليه السلام قال : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر من الأمصار .

[ ص: 189 ] وما قد .

حدثنا إبراهيم قال : حدثنا وهب بن جرير قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي قال : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع .

قال أبو جعفر : فكان أهل العوالي الذين ليسوا في مصر من الأمصار لهم التخلف عن الجمعات ، ومن كان له التخلف عن الجمعات كان له التخلف عن الجماعات سواها في صلوات الأعياد ومما سواها ، وكانوا إذا حضروا الأمصار لصلوات الأعياد كانوا بذلك في موضع على أهله حضور تلك الصلاة يعني صلاة الجمعة وما سواها من صلوات الأعياد ، فأعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما في هذين الحديثين أنهم ليس عليهم أن يقيموا بمكانهم الذي حضروه لصلاة العيد حتى يدخل عليهم وقت الجمعة وهم به ، فتجب عليهم الجمعة كما تجب على أهل ذلك المكان ؛ لأنه مصر من الأمصار ، وجعل لهم أن يقيموا به اختيارا حتى يصلوا فيه الجمعة أو ينصرفوا عنه إلى أماكنهم ، ويتركون الإقامة للجمعة ، فيكون رجوعهم إلى أماكنهم رجوعا إلى أماكن لا جمعة على أهلها .

فقال : فقد رويتم أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى حديثا هو أعجب من هذا .

[ ص: 190 ]

1155 - يعني ما حدثنا به محمد بن علي بن داود البغدادي قال : حدثنا يزيد بن عبد ربه الجرجسي قال : حدثنا بقية بن الوليد قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : اجتمع عيدان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أيما شئتم أجزأكم .

قال : ففي هذا الحديث رده المشيئة إليهم في الإتيان إلى صلاة العيد وترك الإتيان لما سواها من صلاة الجمعة ، أو إتيان الجمعة وترك ما قبلها من صلاة العيد .

[ ص: 191 ] فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه أنه قد يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خاطبهم بذلك قبل يوم العيد ليفعلوه في يوم العيد ، وأعلم بذلك أهل العوالي أن لهم أن يتخلفوا ، عن صلاة العيد ويحضروا لصلاة الجمعة أو يحضروا لصلاة العيد فيصلونها ثم ينصرفون إلى أماكنهم ، ولا يحضرون الجمعة إذا كان أهل تلك الأماكن لا جمعة عليهم ؛ لأنهم ليسوا بمصر من الأمصار .

وقد روي هذا الحديث بألفاظ هي أدل على هذا المعنى من حديث محمد بن علي الذي ذكرنا .

1156 - كما حدثنا بكار بن قتيبة قال : حدثنا أبو داود وأبو عامر قالا : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ذكوان قال : اجتمع عيدان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنكم قد أصبتم خيرا وذكرا ، وإنا مجمعون ؛ فمن شاء أن يجمع فليجمع ، ومن شاء أن يرجع فليرجع .

قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث كشف المعنى الذي ذكرنا [ ص: 192 ] احتمال الحديث الأول إياه ، وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قد كان أمر أهل العوالي بمثل ذلك في يوم اجتمع فيه عيدان من أيامه .

كما حدثنا بكار بن قتيبة قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا مالك بن أنس قال : أخبرنا ابن شهاب ، عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع عثمان في يوم الجمعة ، فجاء فصلى ثم انصرف فخطب ، فقال : إنه قد اجتمع لكم عيدان في يومكم هذا ، من أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها ، ومن أحب أن يرجع فليرجع فقد أذنت له .

وكما .

حدثنا بكار قال : حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فوافق ذلك يوم الجمعة ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثم قال : هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان ، من كان هاهنا [ ص: 193 ] من أهل العوالي فقد أذنا له ، ومن أحب أن يمكث فليمكث .

وفيما ذكرنا بيان لما ذكرنا مما قد تقدم وصفنا له في احتمال ما قد رويناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب . والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية