الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سرية كعب بن الأشرف

روينا عن ابن سعد: أنها كانت لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجره عليه الصلاة والسلام.

قال ابن إسحاق: وكان من حديث كعب بن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب القليب يوم بدر، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية، بشيرين بالفتح ، قال كعب - وكان رجلا من طيئ، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير - : أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان، فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها. فلما أيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي ، وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، ويبكي على أصحاب القليب، ثم رجع إلىالمدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم.

وروينا من طريق ابن عائذ: ، عن الوليد بن مسلم ، عن عبد الله بن لهيعة ، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: ثم انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويمتدح عدوهم ويحرضهم عليهم، فلم يرض بذلك، حتى ركب إلى قريش فاستغواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي دينينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلا [ ص: 449 ] وأفضل وفية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لنا من ابن الأشرف؟ فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا، وقد أخبرني الله عز وجل بذلك، ثم قدم أخبث ما كان، ينتظر قريشا تقدم عليه فيقاتلنا" ، ثم قرأ على المسلمين ما أنزل الله تعالى عليه فيه: ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) الآية، وخمس آيات فيه وفي قريش.

رجع إلى خبر ابن إسحاق: فقال كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة: "من لي من ابن الأشرف"؟ فقال له محمد بن مسلمة - أخو بني عبد الأشهل - : أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: "فافعل إن قدرت على ذلك" . فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه، فقال له: "لم تركت الطعام والشراب"؟ قال: يا رسول الله! قلت لك قولا لا أدري هل أفين لك به أم لا. قال: "إنما عليك الجهد". قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا من أن نقول. قال: "قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك". فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة ، وسلكان بن سلامة بن وقش، وكان أخا لكعب من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ ، وأبو عبس بن جبر.

قلت: وهؤلاء الخمسة من الأوس.

ثم قدموا إلى عدو الله كعب بن الأشرف قبل أن يأتوه سلكان بن سلامة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدا شعرا، وكان أبو نائلة سلكان يقول الشعر، ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم عني. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل، حتى جاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا. فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول. فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك، ونحسن في ذلك. قال: أترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا؟ إن معي أصحابا على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء - وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا بها - قال: إن في الحلقة [ ص: 450 ] لوفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن هشام: ويقال: قال: أترهنوني نساءكم؟ قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم! قال: أترهنوني أبناءكم؟.

قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس، قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم". ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في مثل هذه الساعة. قال: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائما ما أيقظني. فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر. قال: يقول لها كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب. فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه، وقالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تمشي معنا إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا، فقال: إن شئتم. فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر ، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، حتى اطمأن، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله. فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار . قال: فوضعته في ثنته، ثم تحاملت عليه حتى بلغ عانته، فوقع عدو الله. وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ فجرح [ ص: 451 ] في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا، فاحتملناه، فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بمقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.
انتهى خبر ابن إسحاق.

وقال عباد بن بشر في ذلك شعرا:


صرخت به فلم يعرض لصوتي وأوفى طالعا من رأس خدر     فعدت له، فقال من المنادي
فقلت أخوك عباد بن بشر


وهذي درعنا رهنا فخذها     لشهر إن وفى أو نصف شهر
، فقال: معاشر سغبوا وجاعوا     وما عدموا الغنى من غير فقر
فأقبل نحونا يهوي سريعا     وقال لنا: لقد جئتم لأمر
وفي أيماننا بيض حداد     مجربة بها الكفار نفري
فعانقه ابن مسلمة المردى     به الكفار كالليث الهزبر
وشد بسيفه صلتا عليه     فقطره أبو عبس بن جبر
وكان الله سادسنا، فأبنا     بأنعم نعمة وأعز نصر
وجاء برأسه نفر كرام     هم ناهيك من صدق وبر



واستشهد عباد بن بشر يوم اليمامة. وذكر موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب، قال: وممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: عباد بن بشر وقتل يوم اليمامة شهيدا، وكان له يومئذ بلاء وغناء، فاستشهد وهو ابن خمس وأربعين سنة.

[ ص: 452 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية