الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            كتاب الوديعة والعارية [ ص: 354 ] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا ضمان على مؤتمن } رواه الدارقطني )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث قال الحافظ : في إسناده ضعف ، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى عنه بلفظ { : ليس على المستعير غير المغل ضمان ، ولا على المستودع غير المغل ضمان } وقال : إنما نروي هذا عن شريح غير مرفوع قال الحافظ : وفي إسناده ضعيفان قوله : ( الوديعة ) هي في اللغة مأخوذة من السكون ، يقال : ودع الشيء يدع : إذا سكن ، فكأنها ساكنة عند المودع ، وقيل : مأخوذة من الدعة وهي خفض العيش ; لأنها غير مبتذلة بالانتفاع وفي الشرع : العين التي يضعها مالكها عند آخر ليحفظها وهي مشروعة إجماعا

                                                                                                                                            والعارية بتشديد الياء ، قال في النهاية : كأنها منسوبة إلى العار ; لأن طلبها عار ، ويجمع على عواري مشددا وفي الشرع إباحة منافع العين بغير عوض وهي أيضا مشروعة إجماعا قوله : ( لا ضمان على مؤتمن ) فيه دليل على أنه لا ضمان على من كان أمينا على عين من الأعيان كالوديع والمستعير أما الوديع فلا يضمن قيل : إجماعا إلا لجناية منه على العين وقد حكي في البحر الإجماع على ذلك ، وتأول ما حكي عن الحسن البصري أن الوديع لا يضمن إلا بشرط الضمان بأن ذلك محمول على ضمان التفريط لا الجناية المتعمدة ، والوجه في تضمينه الجناية أنه صار بها خائنا ، والخائن ضامن لقوله صلى الله عليه وسلم { : ولا على المستودع غير المغل ضمان } والمغل : هو الخائن ، وهكذا يضمن الوديع إذا وقع منه تعد في حفظ العين لأنه نوع من الخيانة وأما العارية فذهبت العترة والحنفية والمالكية إلى أنها غير مضمونة على المستعير إذا لم يحصل منه تعد

                                                                                                                                            وقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وعزاه صاحب الفتح إلى الجمهور : إنها إذا تلفت في يد المستعير ضمنها إلا فيما إذا كان ذلك على الوجه المأذون فيه وعن الحسن البصري والنخعي والأوزاعي وشريح والحنفية أنها غير مضمونة وإن شرط الضمان وعند العترة وقتادة والعنبري : أنه إذا شرط الضمان كانت مضمونة وحكي في البحر عن مالك والبتي أن غير الحيوان مضمون ، والحيوان غير مضمون واستدل من قال إنه لا ضمان على غير المتعدي بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم { : ليس على المستعير غير المغل ضمان } وبقوله { لا ضمان على مؤتمن } [ ص: 355 ] وبما أخرجه ابن ماجه عن ابن عمرو بلفظ : { من أودع وديعة فلا ضمان عليه } وفي إسناده المثنى بن الصباح وهو متروك ، وتابعه ابن لهيعة فيما ذكره البيهقي وبما أخرجه أبو داود وحسنه الترمذي ، وصححه ابن حبان من حديث أبي أمامة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع : { العارية مؤداة والزعيم غارم } وتعقب بأن التصريح بضمان الزعيم لا يدل على عدم ضمان المستعير

                                                                                                                                            واستدل من قال بالضمان بحديث سمرة الآتي وبقوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ولا يخفى أن الأمر بتأدية الأمانة لا يستلزم ضمانها إذا تلفت واستدل من فرق بين الحيوان وغيره بحديث صفوان الآتي ، ولا يخفى أن دلالته على أن غير الحيوان مضمون لا يستفاد منها أن حكم الحيوان بخلافه

                                                                                                                                            2389 - ( وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك } رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن ) . الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه ، وفي إسناده طلق بن غنام عن شريك ، واستشهد له الحاكم بحديث أبي التياح عن أنس وفي إسناده أيوب بن سويد مختلف فيه ، وقد تفرد به كما قال الطبراني وقد استنكر حديث الباب أبو حاتم الرازي وأخرجه أيضا البيهقي ومالك وفي الباب عن أبي بن كعب عند ابن الجوزي في العلل المتناهية ، وفي إسناده من لا يعرف ، وأخرجه أيضا الدارقطني وعن أبي أمامة عند البيهقي والطبراني بسند ضعيف وعن أنس عند الدارقطني والطبراني والبيهقي وأبي نعيم وعن رجل من الصحابة عند أحمد وأبي داود والبيهقي وفي إسناده مجهول آخر غير الصحابي ; لأن يوسف بن ماهك رواه عن فلان عن آخر ، وقد صححه ابن السكن وعن الحسن مرسلا عند البيهقي قال الشافعي : هذا حديث ليس بثابت وقال ابن الجوزي : لا يصح من جميع طرقه وقال أحمد : هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح ، ولا يخفى أن وروده بهذه الطرق المتعددة مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها وتحسين إمام ثالث منهم مما يصير به الحديث منتهضا للاحتجاج

                                                                                                                                            قوله : ( ولا تخن من خانك ) فيه دليل على أنه لا يجوز مكافأة الخائن بمثل فعله فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى: { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقوله تعالى { : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقوله تعالى { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } والحاصل أن الأدلة القاضية بتحريم مال الآدمي ودمه وعرضه عمومها مخصص بهذه [ ص: 356 ] الثلاث الآيات

                                                                                                                                            وحديث الباب مخصص لهذه الآيات ، فيحرم من مال الآدمي وعرضه ودمه ما لم يكن على طريق المجازاة فإنها حلال إلا الخيانة فإنها لا تحل ، ولكن الخيانة إنما تكون في الأمانة كما يشعر بذلك كلام القاموس فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث ، على أنه لا يجوز لمن تعذر عليه استيفاء حقه حبس حق خصمه على العموم كما فعله صاحب البحر وغيره ، إنما يصح الاستدلال به على أنه لا يجوز للإنسان إذا تعذر عليه استيفاء حقه أن يحبس عنده وديعة لخصمه أو عارية ، مع أن الخيانة إنما تكون على جهة الخديعة والخفية ، وليس محل النزاع من ذلك ، ومما يؤيد الجواز إذنه صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي سفيان أن تأخذ لها ولولدها من مال زوجها ما يكفيها كما في الحديث الصحيح

                                                                                                                                            وقد اختلف في مسألة الحبس المذكورة ، فذهب الهادي إلى أنه لا يجوز مطلقا لا من الجنس ولا من غيره قال المؤيد بالله : إن قول الهادي مسبوق بالإجماع وقال الشافعي والمنصور بالله : يجوز من الجنس وغيره وقال أبو حنيفة والمؤيد بالله : يجوز من الجنس فقط ، وقال الإمام يحيى : يجوز من الجنس ثم من غيره لتعذره دينا قال في البحر بعد حكاية الخلاف : قلت : الأقرب اشتراط الحاكم حيث يمكن للخبر ، يعني : حديث الباب ، فإن تعذر جاز الحبس وغيره لئلا تضيع الحقوق ولظواهر الآي .

                                                                                                                                            2390 - ( وعن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { على اليد ما أخذت حتى تؤديه } رواه الخمسة إلا النسائي ، زاد أبو داود والترمذي : قال قتادة : ثم نسي الحسن فقال : هو أمينك لا ضمان عليه ، يعني : العارية ) الحديث صححه الحاكم ، وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف مشهور قد تقدم

                                                                                                                                            وفيه دليل على أنه يجب على الإنسان رد ما أخذته يده من مال غيره بإعارة أو إجارة أو غيرهما حتى يرده إلى مالكه ، وبه استدل من قال بأن الوديع والمستعير ضامنان وقد تقدم الخلاف في ذلك وهو صالح للاحتجاج به على التضمين ; لأن المأخوذ إذا كان على اليد الآخذة حتى ترده ، فالمراد أنه في ضمانها كما يشعر لفظ على من غير فرق بين مأخوذ ومأخوذ وقال المقبلي في المنار : يحتجون بهذا الحديث في مواضع على التضمين ولا أراه صريحا ; لأن اليد الأمينة أيضا عليها ما أخذت حتى ترد ، وإلا فليست بأمينة :

                                                                                                                                            ومستخبر عن سر ليلى تركته بعمياء من ليلى بغير يقين     يقولون خبرنا فأنت أمينها
                                                                                                                                            وما أنا إن خبرتهم بأمين

                                                                                                                                            [ ص: 357 ] إنما كلامنا هل يضمنها لو تلفت بغير جناية ؟ وليس الفرق بين المضمون وغير المضمون إلا هذا

                                                                                                                                            وأما الحفظ فمشترك وهو الذي تفيده على ، فعلى هذا لم ينس الحسن كما زعم قتادة حين قال { : هو أمينك لا ضمان عليه } بعد رواية الحديث ا هـ ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام من قلة الجدوى وعدم الفائدة وبيان ذلك أن قوله : ; لأن اليد الأمينة عليها ما أخذت حتى ترده وإلا فليست بأمينة يقتضي الملازمة بين عدم الرد وعدم الأمانة ، فيكون تلف الوديعة والعارية بأي وجه من الوجوه قبل الرد مقتضيا لخروج الأمين عن كونه أمينا وهو ممنوع ، فإن المقتضي لذلك إنما هو التلف بخيانة أو جناية ، ولا نزاع في أن ذلك موجب للضمان ، إنما النزاع في تلف لا يصير به الأمين خارجا عن كونه أمينا كالتلف بأمر لا يطاق دفعه أو بسبب سهو أو نسيان أو بآفة سماوية أو سرقة أو ضياع بلا تفريط فإنه يوجد التلف في هذه الأمور مع بقاء الأمانة .

                                                                                                                                            وظاهر الحديث يقتضي الضمان وقد عارضه ما أسلفنا وقال في ضوء النهار : إن الحديث إنما يدل على وجوب تأدية غير التالف والضمان عبارة عن غرامة التالف ا هـ ولا يخفى أن قوله في الحديث " على اليد ما أخذت " من المقتضى الذي يتوقف فهم المراد منه على مقدر وهو إما الضمان أو الحفظ أو التأدية ، فيكون معنى الحديث على اليد ضمان ما أخذت أو حفظ ما أخذت أو تأدية ما أخذت ، ولا يصح هاهنا تقدير التأدية ; لأنه قد جعل قوله : " حتى تؤديه " غاية لها ، والشيء لا يكون غاية لنفسه وأما الضمان والحفظ فكل واحد منهما صالح للتقدير ، ولا يقدران معا لما تقرر من أن المقتضى لا عموم له ، فمن قدر الضمان أوجبه على الوديع والمستعير ، ومن قدر الحفظ أوجبه عليهما ولم يوجب الضمان إذا وقع التلف مع الحفظ المعتبر وبهذا تعرف أن قوله إنما يدل الحديث على وجوب التأدية لغير التالف ليس على ما ينبغي ، وأما مخالفة رأي الحسن لروايته فقد تقرر في الأصول أن العمل بالرواية لا بالرأي

                                                                                                                                            2391 - ( وعن صفوان بن أمية : { أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدرعا ، فقال : أغصبا يا محمد ؟ قال : بل عارية مضمونة ، قال : فضاع بعضها ، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له ، فقال : أنا اليوم في الإسلام أرغب } رواه أحمد وأبو داود )

                                                                                                                                            2392 - ( وعن أنس بن مالك قال : { كان فزع بالمدينة ، فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا [ ص: 358 ] من أبي طلحة يقال له المندوب فركبه فلما رجع قال : ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحرا } متفق عليه ) حديث صفوان أخرجه أيضا النسائي والحاكم ، وأورد له شاهدا من حديث ابن عباس ولفظه : { بل عارية مؤداة } وفي رواية لأبي داود { إن الأدراع كانت ما بين الثلاثين إلى الأربعين } ورواه البيهقي عن أمية بن صفوان مرسلا ، وبين أن الأدراع كانت ثمانين ورواه الحاكم من حديث جابر وذكر أنها مائة درع ، وأعل ابن حزم وابن القطان طرق هذا الحديث قال ابن حزم : أحسن ما فيها حديث يعلى بن أمية وقد تقدم في كتاب الوكالة

                                                                                                                                            قوله : ( أغصبا ) معمول لفعل مقدر هو مدخول الهمزة : أي : أتأخذها غصبا لا تردها علي ؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم بقوله : " بل عارية مضمونة " فمن استدل بهذا الحديث على أن العارية مضمونة جعل لفظ مضمونة صفة كاشفة لحقيقة العارية ، أي : أن شأن العارية الضمان ومن قال إن العارية غير مضمونة جعل لفظ مضمونة صفة مخصصة ، أي : أستعيرها منك عارية متصفة بأنها مضمونة لا عارية مطلقة عن الضمان قوله : ( فعرض عليه أن يضمنها ) فيه دليل على أن الضياع من أسباب الضمان ، لا على أن مطلق الضياع تفريط وأنه يوجب الضمان على كل حال لاحتمال أن يكون تلف ذلك البعض وقع فيه تفريط

                                                                                                                                            قوله : ( فزع ) أي : خوف من عدو وأبو طلحة المذكور هو زيد بن سهل زوج أم أنس قوله : ( يقال له المندوب ) قيل سمي بذلك من الندب وهو الرهن عند السباق وقيل لندب كان في جسمه وهو أثر الجرح قوله : ( وإن وجدناه لبحرا ) قال الخطابي : إن هي النافية واللام بمعنى إلا : أي : ما وجدناه إلا بحرا قال ابن التين : هذا مذهب الكوفيين وعند البصريين أن إن مخففة من الثقيلة واللام زائدة . قال الأصمعي : يقال للفرس بحر إذا كان واسع الجري أو ; لأن جريه لا ينفد كما لا ينفد البحر ، ويؤيده ما وقع في رواية للبخاري بلفظ : { فكان بعد ذلك لا يجارى }




                                                                                                                                            الخدمات العلمية