الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1008 [ ص: 257 ] ( 16 ) باب العمل في غسل الشهداء

                                                                                                                        964 - ذكر فيه مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن عمر بن [ ص: 258 ] الخطاب غسل وكفن وصلي عليه . وكان شهيدا . يرحمه الله .

                                                                                                                        965 - مالك ؛ أنه بلغه عن أهل العلم ؛ أنهم كانوا يقولون : الشهداء في سبيل الله لا يغسلون ، ولا يصلى على أحد منهم ، وأنهم يدفنون في الثياب التي قتلوا فيها .

                                                                                                                        20267 - قال مالك : وتلك السنة فيمن قتل في المعترك ، فلم يدرك حتى مات .

                                                                                                                        20268 - قال : وأما من حمل منهم فعاش ما شاء الله بعد ذلك ، فإنه يغسل ويصلى عليه . كما عمل بعمر بن الخطاب .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        20269 - قال أبو عمر : اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم :

                                                                                                                        20270 - فذهب أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، والليث ، والأوزاعي : إلى أنهم لا يغسلون إذا ماتوا في المعترك .

                                                                                                                        20271 - وبه قال أحمد ، وإسحاق ، والطبري .

                                                                                                                        20272 - وحجتهم : حديث جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في قتلى أحد : " ادفنوهم بدمائهم ، وزملوهم بثيابهم " .

                                                                                                                        20273 - وهذا حديث اختلف فيه ، عن ابن شهاب .

                                                                                                                        20274 - ورواه معمر ، عن الزهري ، عن ابن أبي زهير ، عن جابر .

                                                                                                                        20275 - ورواه الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن [ ص: 259 ] مالك ، أن جابر بن عبد الله أخبره بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        20276 - وخرج البخاري حديث الليث هذا عن ابن شهاب بإسناده .

                                                                                                                        20277 - وأخرجه أبو داود أيضا .

                                                                                                                        20278 - ورواه ابن وهب ، عن أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أنس أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ودفنوا بثيابهم .

                                                                                                                        20279 - وقد حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، قال : حدثنا عبد الرحمن [ ص: 260 ] بن مهدي ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : " رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات ، فأدرج في ثيابه كما هو ، قال : ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

                                                                                                                        20280 - قال أبو عمر : هذا حديث صحيح الإسناد .

                                                                                                                        20281 - وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا زياد بن أيوب ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم .

                                                                                                                        20281 - فهذا معنى قول مالك فيمن قتل في المعترك .

                                                                                                                        20282 - وقال سعيد بن المسيب ، والحسن البصري : يغسل الشهداء كلهم كما يغسل سائر المسلمين .

                                                                                                                        20283 - قال أحدهما : إنما لم يغسل شهداء أحد للشغل الذي كان فيه ، ولكثرتهم .

                                                                                                                        20284 - روي عن سعيد ، والحسن أنهما قالا : لا يغسل الشهداء ؛ لأن كل ميت يجلب .

                                                                                                                        [ ص: 261 ] 20285 - قال أبو عمر : لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول سعيد بن المسيب ، والحسن البصري في غسل الشهداء إلا عبيد الله بن الحسن العنبري ، وليس ما قالوه من ذلك بشيء ؛ لأن الشيء الذي جعلوه علة ليس بعلة ، لأن كل واحد من القتلى كان له أولياء يشتغلون به دون غيره بل العلة في ذلك ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أن الشهيد يأتي يوم القيامة ، وريح دمه كريح المسك .

                                                                                                                        20286 - واحتج بعض من ذهب من المتأخرين مذهب سعيد ، والحسن في ترك غسل الشهداء بقوله عليه السلام في شهداء أحد : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة .

                                                                                                                        20287 - قال : وهذا يدل ، على خصوصهم ، وأنهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ، كما لا يشركهم في شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        20288 - قال أبو عمر : يلزمه أن يقول في المحرم الذي وقصته ناقته أن لا [ ص: 262 ] يفعل بغيره من المسلمين ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به ؛ لأنه قال فيه : يبعث يوم القيامة ملبيا ، وهو لا يقول بذلك .

                                                                                                                        20289 - وأما الصلاة على الشهداء فإن العلماء قد اختلفوا في ذلك ، واختلفت الآثار في ذلك أيضا .

                                                                                                                        20290 - فذهب مالك ، والليث ، والشافعي ، وأحمد ، وداود إلى ألا يصلى عليهم بحديث الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ولم يصل عليهم " .

                                                                                                                        20291 - وبحديث أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك ، أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ودفنوا ، ولم يصل عليهم .

                                                                                                                        20292 - ذكره أبو داود ، عن أحمد بن صالح ، عن ابن وهب ، عن أسامة .

                                                                                                                        20293 - وقال معمر ، عن الزهري : لم يصل على شهداء أحد .

                                                                                                                        20294 - وقال فقهاء الكوفة : ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والحسن بن صالح ، وأبو حنيفة ، وأصحابه وسليمان بن موسى ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد [ ص: 263 ] العزيز ، وفقهاء أهل البصرة : عبيد الله بن الحسن ، وغيره : يصلى على الشهداء كلهم ، ولا تترك الصلاة عليهم . ولا على غيرهم من المسلمين .

                                                                                                                        20295 - ورووا في ذلك آثارا كثيرة أكثرها مراسيل ؛ " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على شهداء أحد ، وصلى على حمزة سبعين صلاة .

                                                                                                                        20296 - وروى ابن عيينة ، وغيره ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي ، قال : " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة يوم أحد سبعين صلاة ، كلما صلى على رجل ، صلى عليه " .

                                                                                                                        20297 - قال أبو عمر : قد خالف الشعبي في ذلك غيره .

                                                                                                                        20298 - ذكر أبو داود ، قال : حدثنا عباس العنبري ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بحمزة ، وقد مثل به ، فصلى عليه ، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره .

                                                                                                                        20299 - وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الزبير بن عدي ، عن عطاء بن أبي رباح قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلى بدر .

                                                                                                                        20300 - وأجمع العلماء على أن الشهيد في معترك الكفار إذا حمل حيا ، ولم يمت في المعترك ، وعاش وأكل وشرب ، فإنه يغسل ويصلى عليه . كما فعل بعمر ، [ ص: 264 ] وبعلي ( رضوان الله عليهما ) .

                                                                                                                        20301 - واختلفوا في غسل من قتل مظلوما ، كغسل الخوارج ، وقطاع السبيل ، وما أشبه ذلك ، ممن قتل مظلوما .

                                                                                                                        20302 - فقال مالك : لا يغسل من قتله الكفار إلا أن يموت في المعترك فإن حمل من موضع مصرعه ، فعاش وأكل وشرب ، ثم مات ، غسل وصلي عليه .

                                                                                                                        20303 - وأما من غسل في فتنة أو نائرة أو قتله اللصوص ، أو البغاة ، أو كان من اللصوص أو البغاة ، فقتل ، أو قتل قودا ، أو قتل نفسه ، فإن هؤلاء كلهم يغسلون ويصلى عليهم .

                                                                                                                        20304 - وبه قال الشافعي .

                                                                                                                        20305 - قال أبو حنيفة ، والشافعي : كل من قتل مظلوما ، لم يغسل ، ولا أنه يصلى عليه ، وعلى كل شهيد .

                                                                                                                        20306 - وهو قول سائر أهل العراق .

                                                                                                                        20307 - ورووا من طرق كثيرة في عمار بن ياسر ، وزيد بن صوحان بأن كل واحد منهما ، قال : لا تنزعوا عني ثوبا ، ولا تغسلوا عني دما ، وادفنوني في ثيابي .

                                                                                                                        20308 - روي مثل ذلك عن حجر بن عدي بن الأدبر - رحمه الله .

                                                                                                                        [ ص: 265 ] 20309 - قال أبو عمر : قتل زيد بن صوحان يوم الجمل ، وقتل عمار بن ياسر بصفين ، وأما حجر بن عدي ، فقتله معاوية صبرا ، بعث به إليه زياد بن أبي سفيان .

                                                                                                                        [ ص: 266 ] 20310 - وروى هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، أن حجر بن عدي قال : لا تطلقوا عني حديدا ، ولا تغسلوا عني دما ، وادفنوني في ثيابي فإني ملاق معاوية بالجادة وإني مخاصمه .

                                                                                                                        20311 - وروى معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : أمر معاوية ، بقتل حجر بن عدي الكندي ، فقال حجر : لا تنزعوا عني قيدا ، أو قال : حديدا ، وكفنوني في ثيابي ودمي .

                                                                                                                        [ ص: 267 ] [ ص: 268 ] [ ص: 269 ] 20312 - وذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جرير ، عن عطاء ، قال : ما رأيتهم يغسلون الشهيد ، ولا يحنطونه ، ولا يكفنونه ، قلت : كيف يصلى عليه ؟ قلت ، كالذي يصلى على الذي ليس بشهيد .

                                                                                                                        20313 - قال : وأخبرنا ابن جريج ، قال : سألنا سليمان بن موسى : كيف الصلاة على الشهيد عندكم ؟ قال : كيف يصلى على غير الشهيد ؟ وسألناه عن دفن الشهيد ؟ قال : أما إذا مات في المعركة فإنما ندفنه كما هو ولا نغسله ، ولا نكفنه ، ولا نحنطه . قال : وأما إذا انقلبنا به ، وبه رمق ، فإنا نغسله ونكفنه ونحنطه وجدنا الناس على ذلك ، وكان من مضى عليه من الناس قبلنا .

                                                                                                                        20314 - قال : وأخبرنا معمر ، عن نافع ، عن أيوب ، قال : كان عمر من خير الشهداء ، فغسل وكفن وصلي عليه ؛ لأنه عاش بعد طعنه .

                                                                                                                        20315 - قال : وأخبرنا الحسن بن عمارة ، عن يحيى بن الجزار ، قال : غسل [ ص: 270 ] علي - رضي الله عنه - وكفن وصلي عليه .

                                                                                                                        20316 - قال أبو عمر : من حجة من ذهب إلى هذا - وهو معنى قول مالك - أن السنة المجتمع عليها في موتى المسلمين أنهم يغسلون ويكفنون ، ويصلى عليهم ، فكذلك حكم كل ميت ، وقتيل من المسلمين إلا أن يجتمعوا على شيء من ذلك ، فيكون خصوصا من الإجماع بإجماع .

                                                                                                                        20317 - وقد أجمعوا - إلا من شذ عنهم - بأن قتيل الكفار في المعترك إذا مات من وقته قبل أن يأكل ويشرب أنه لا يغسل ، ولا يصلى عليه ، فكان مستثنى من السنة المجتمع عليها بالسنة المجتمع عليها ومن عداهم فحكمه الغسل والصلاة ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                        20318 - ومن حجة من جعل قتيل البغاة والخوارج واللصوص ، وكل من قتل ظلما إذا مات من وقته كقتيل الكفار في الحرب إذا مات في المعترك ، القياس على قتيل الكفار ، قالوا : وأما عمر وعلي ، فإنهما غسلا وصلي عليهما لأنهما عاشا وأكلا وشربا بعد أن أصيبا ، وبالله التوفيق .




                                                                                                                        الخدمات العلمية