الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1763 - مسألة : ووصية المرء لعبده بمال مسمى أو بجزء من ماله : جائز ، وكذلك لعبد وارثه ، ولا يعتق عبد الموصي بذلك ، ولوارث الموصي أن ينتزع من عبده نفسه ما أوصى له فلو أوصى لعبده برقبته ، فالوصية باطل ، ولا يعتق العبد بذلك - ولا شيء له - فلو أوصى لعبده بثلث ماله أعطي ثلث سائر ما يبقى من مال الموصي بعد إخراج العبد عن ماله ، ولا يعتق بذلك .

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف الناس في هذا - : فقال الحسن ، وابن سيرين ، وأبو حنيفة ، ومالك ، [ ص: 372 ] والشافعي : من أوصى لعبده بثلث ماله أعتق العبد من الثلث ، فإن فضل من الثلث شيء أعطيه أيضا .

                                                                                                                                                                                          وكذلك إن أوصى له بجزء مشاع في ماله أقل من الثلث فيعتق ، ويعطى ما فضل من ذلك الجزء .

                                                                                                                                                                                          ثم اختلفوا - إن لم يحمله الثلث - فقال الحسن ، وابن سيرين ، وأبو حنيفة : يعتق منه ما حمل الثلث ، ثم يعتق باقيه ، ويستسعي في قيمة ما فضل منه عن الثلث .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك ، والشافعي : يعتق منه ما يحمل الثلث ويبقى سائره رقيقا .

                                                                                                                                                                                          وكذلك أيضا عند من ذكرنا إن أوصى له برقبته أو بنفسه - : فلو أوصى له بشيء معين من ماله ، أو بمكيل ، أو موزون ، أو معدود ، فإن أبا حنيفة ، وسفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه قالوا : الوصية باطل - ويشبه أن يكون هذا قول الشافعي .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : الوصية نافذة ، وليس للوارث أن ينتزع ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقال الأوزاعي : الوصية للعبد باطلة بكل حال .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو ثور ، وأبو سليمان كما قلنا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما من جوز الوصية للمملوك برقبته فباطل ، وكذلك من أجاز أن يوهب للمملوك نفسه ، أو رقبته ، أو يتصدق عليه بها ، أو أن يملكها ، وأوجب له العتق بذلك .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : أنه لم يأت نص قرآن ولا سنة قط بأن المرء يملك رق نفسه ، فإذ لم يأت بذلك قرآن ولا سنة ، وهو في العقل ممنوع ; لأن الملك يقتضي مالكا ومملوكا وقد جاءت النصوص بإباحة فرج المملوكة ، وبحسن الوصاة بما ملكنا - فصح أن المملوك غير المالك بيقين .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فلو أن المملوك جاز أن يملك نفسه لكان حينئذ لا بد ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما - :

                                                                                                                                                                                          إما أن يعتق بملكه له نفسه

                                                                                                                                                                                          وإما أن لا يعتق بذلك . [ ص: 373 ] فإن قالوا : يعتق ولا بد ؟ قلنا : ومن أين قلتم هذا ولا نص في ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قياسا على من يعتق عليه من ذوي رحمه فهو أولى بذلك ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأنه لا خلاف في افتراق حكم المرء في نفسه ، وحكمه في ذوي رحمه ، وأنه يجوز له في نفسه ما لا يجوز له في ذوي رحمه ، فللمرء أن يؤاجر نفسه للخدمة ، وليس له أن يؤاجر ذا رحمه للخدمة - فبطل هذا القياس الفاسد على كل حال .

                                                                                                                                                                                          ثم لو وجب عتقه بذلك لكان بلا شك إذ ملك رق نفسه فقد سقط ملك سيده عنه جملة ، وصار العبد هو المعتق لنفسه .

                                                                                                                                                                                          وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنما الولاء لمن أعتق } .

                                                                                                                                                                                          فبطل أن يكون الولاء في ذلك للسيد ، ووجب أن يكون ولاؤه لنفسه لأنه هو الذي أعتق على نفسه ، وهذا خلاف قولكم .

                                                                                                                                                                                          وإن قلتم : لا يعتق بذلك ؟ لزمكم أن تجيزوا له أن يبيع نفسه ، وأنتم لا تقولون بهذا - فوضح تناقض قولكم وفساده بلا شك - .

                                                                                                                                                                                          وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قد قال الله تعالى حاكيا عن موسى عليه الصلاة والسلام ومصوبا له أنه : { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي }

                                                                                                                                                                                          قلنا : صدق الله عز وجل وصدق موسى عليه الصلاة والسلام وكذب من يحرف الكلم عن مواضعه إن موسى عليه الصلاة والسلام لم يعن قط بلا خلاف من أحد وبضرورة الحس ملك رق نفسه ورق أخيه عليهما السلام ، ومن قال هذا فقد كفر وسخف وتوقح ما شاء ، وإنما عنى بلا شك ولا خلاف : ملك التصرف في أمر ربه عز وجل - وهذا حق لا ينكره ذو عقل ، فمن أضعف قولا وأفحش جهلا ممن يحتج بآية في خلاف نصها ومعناها ، إن هذا لأمر عظيم - نعوذ بالله من مثله .

                                                                                                                                                                                          فإذ قد بطل أن يملك أحد رق نفسه فقد بطل تمليكه ذلك ، وإذ بطل تمليكه ذلك [ ص: 374 ] فقد بطل أن يكون له حكم نافذ غير الإنكار والإبطال ، وصح قولنا - والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          وأما إبطال الأوزاعي الوصية للعبد جملة فخطأ ظاهر ; لأن الله تعالى أمر بالوصية جملة ولم يخص العبد من الحر .

                                                                                                                                                                                          قال تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } فكل وصية جائزة إلا وصية منع منها نص قرآن أو سنة .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { في كل ذي كبد رطبة أجر } .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : العبد لا يملك ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : بل يملك لأن الله تعالى أجاز للعبد النكاح ، وأمر بإنكاح الإماء وكلف الناكح جملة النفقة والإسكان والصداق ، ولا يكلف ذلك إلا مالك ، وكل ذلك فرض على كل ناكح ، قال تعالى : { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن } فأمر تعالى بإعطاء الأمة مهرها - فصح أنه لها ملك صحيح .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } وهذا نص ظاهر .

                                                                                                                                                                                          فصح أن ملك العبيد والإماء للمال وكونهم أغنياء وفقراء كالأحرار .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا قول الله عز وجل : { عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } .

                                                                                                                                                                                          قلنا : لم يقل الله تعالى : إن هذه صفة كل مملوك ، إنما ذكر من هذه صفته من المماليك ، وقد قال تعالى : { رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء } أفترون كل أبكم ؟ فواجب لا يملك المال أصلا ، ولا فرق بين النصين ؟ وبرهان صحة قولنا - : أن الله تعالى لم يقل عبدا مملوكا لا يمكن أن يملك مالا ، إنما قال : لا يقدر على شيء ، والله تعالى لا يقول إلا الحق ونحن نرى العبيد يقدرون على أشياء كقدرة الأحرار ، أو أكثر ، فيقدرون على الصلاة ، والصيام ، والطهارة ، والجماع ، والحركة ، وحمل الأثقال ، والقتال ، والغزو .

                                                                                                                                                                                          فصح أن الله تعالى لم يعن قط بتلك الآية : ملك المال ، وإنما عنى عبدا لا يقدر على شيء لضعف جسمه جملة - فبطل تمويههم - وبالله تعالى التوفيق . [ ص: 375 ] ومن العجائب إبطالهم ملك العبد لشيء من الأموال ، ثم ملكوه ما لا يملك وهو رقبته .

                                                                                                                                                                                          وأما إجازة أبي حنيفة الوصية للمملوك بالجزء المشاع في المال وإبطاله الوصية له بالشيء المعين ، أو المكيل المعين ، أو الموزون ، أو المعدود : فخطأ ، لا خفاء به ، وفرق لا برهان له أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية ساقطة ، ولا قول صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا رأي سديد .

                                                                                                                                                                                          وقد علم كل ذي حس سليم : أن من أوصى لعبده بثلث ماله فإن الشيء الموصى به هو غير الإنسان الموصى له بذلك الشيء ، فصح يقينا أنه لم يوص له من رقبته بشيء وإنما أوصى له بجزء من ماله لا تدخل فيه رقبته .

                                                                                                                                                                                          وأما قول مالك : أن الوصية جائزة ، وليس للوارث أن ينتزعه منه : فخطأ فاحش ، وقول لا نعلم أحدا قاله قبله ، وقول لا برهان على صحته .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : إنه إذا انتزعه منه صارت الوصية للوارث ؟ قلنا : هذا باطل ، ما صارت قط وصية لوارث ، لكن هي وصية لغير وارث ، ثم أخذها الوارث بحوله ، كما يجيز مالك : الوصية لزوج الابنة الفقير الذي لا شيء له ثم تأخذه الوارثة في صداقها ، وفي نفقتها ، وكسوتها .

                                                                                                                                                                                          وكما أجاز أيضا - الوصية لغريم الوارث العديم ، ثم يأخذه الوارث في دينه ، فأي فرق بين الأمرين ؟ وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية