الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 380 ] ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآيتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ) .

                          هذه قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وملئه ملخصة هنا في 19 آية مفصلة مرتبة كما نبينه في تفسيرها ، وهذه الأربع منها في استكبار فرعون وملئه عن الإيمان وزعمهم أن آيات الله لموسى من السحر ، وتعليل تكذيبهم له بأمرين أحدهما : أن اتباعه تحويل لهم عن التقاليد الموروثة عن الآباء ، والثاني : أنه يسلب سلطانهم منهم وينفرد هو وأخوه بما يتمتعون به من الكبرياء في الأرض ، وهذا بمعنى ما تقدم من قصة نوح المختصرة في هذه السورة . وهاك تفسيرهن بالاختصار :

                          ( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه ) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل - الذين بعثناهم إلى أقوامهم - موسى وهارون إلى فرعون مصر وأشراف قومه الذين هم أركان دولته ، وإلى قومهم القبط بالتبع لهم لأنهم كانوا مستعبدين لهم يكفرون بكفرهم ، ويؤمنون بإيمانهم أن آمنوا ( بآياتنا ) أي بعثناهما مؤيدين بآياتنا التسع المفصلة في سورة الأعراف وغيرها ( فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) أي فاستكبر فرعون وملؤه ، أي أعرضوا عن الإيمان كبرا وعلوا مع علمهم بأن ما جاء به هو الحق ، لما كانوا عليه من سعة العلم وصناعة السحر ، وكانوا قوما راسخين في الإجرام وهو الظلم والفساد في الأرض ، كما قال تعالى في سورة النمل : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) ( 27 : 14 ) .

                          ( فلما جاءهم الحق ) وهو آياتنا الدالة على الربوبية والألوهية ( من عندنا ) ووحينا [ ص: 381 ] إلى موسى كما هو مفصل في أول سورة الشعراء وغيرها ، المبطل لادعاء فرعون لهما بقوله : ( أنا ربكم الأعلى ) ( 79 : 24 ) وقوله : ( ما علمت لكم من إله غيري ) ( 28 : 38 ) ( قالوا إن هذا لسحر مبين ) أي أقسموا إن هذا الذي جاء به موسى من الآيات الدالة على صدقه إنما هو سحر بين ظاهر ، وإنما السحر صناعة باطلة هم أحذق الناس بها ، فكيف يتبعون من جاء ينازعهم سلطانهم بها ، فماذا قال لهم موسى ؟ .

                          ( قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم ) أي قال لهم متعجبا من قولهم أتقولون هذا الذي قلتم للحق الظاهر ، الذي هو أبعد الأشياء عن كيد السحر الباطل ، لما جاءكم وعرفتموه واستيقنته أنفسكم ، حذف مقول القول لدلالة ما قبله عليه وهو قولهم : ( إن هذا لسحر مبين ) وكذا ما بعده وهو قوله منكرا له متعجبا منه : ( أسحر هذا ) أي إن هذا الذي ترونه من آيات الله بأعينكم ، وترجف من عظمته قلوبكم ، لا يمكن أن يكون سحرا من جنس ما تصنعه أيديكم ، ( ولا يفلح الساحرون ) أي والحال المعروف عندكم أن الساحرين لا يفوزون في أمور الجد العملية من دعوة دين وتأسيس ملك وقلب نظام ، وهو ما تتهمونني به على ضعفي وقوتكم ، لأن السحر أمور شعوذة وتخييل ، لا تلبث أن تفتضح وتزول ، يدل على هذا جوابهم له :

                          ( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) هذا استفهام توريط وتقرير ، تجاه ما أورده موسى من استفهام الإنكار والتعجيب ، فحواه أتقر وتعترف بأنك جئتنا لتصرفنا وتحولنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من الدين القومي الوطني لنتبع دينك وتكون لك ولأخيك كبرياء الرياسة الدينية ، وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية التابعة لها في أرض مصر كلها ؟ يعنون أنه لا غرض لك من دعوتك إلا هذا وإن لم تعترف به اعترافا . جعلوا الخطاب الخاص بالدعوة والغرض منها لموسى لأنه هو الداعي لهم بالذات وأشركوا معه أخاه في ثمرة الدعوة وفائدتها لأنها تكون مشتركة بينهما بالضرورة ( وما نحن لكما بمؤمنين ) أي وما نحن بمتبعين لكما اتباع إيمان وإذعان فيما يخرجنا من دين آبائنا الذي تقلده عامتنا ، ويسلبنا ملكنا الذي تتمتع بكبريائه خاصتنا - وهم الملك وأركان دولته وبطانته وحواشيه - وهذان الأمران هما اللذان كانا يمنعان جميع الأقوام من اتباع الأنبياء والمصلحين في كل زمان .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية