الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 268 ] ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة

فمن الحوادث فيها:

[ قبض على الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي ]

أنه قبض على الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي في صفر ، وقلد [ أبو الحسن ] علي بن أحمد بن إسحاق العلوي نقابة الطالبيين ببغداد وواسط ، وأبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى نقابتهم بالكوفة ، وأبو الحسن أحمد بن القاسم المحمدي نقابتهم بالبصرة والأهواز ، وكان قد استذنب أبو أحمد بما ليس بذنب ، فأري خطا مزورا على خطه بإفشاء الأسرار ، وقيل له: إن عز الدولة أعطاك عقدا في فداء غلامه فكتمتناه! فقال: أما الخط فليس بخطي ، وأما العقد فإنه قال: إن لم يقبل ما دفعت فادفع هذا فلم يجز لي أن أخونه .

وفي يوم الاثنين لأربع بقين من صفر: قبض [ عضد الدولة ] على أبي محمد ابن معروف قاضي القضاة ، وأنفذه إلى القلعة بفارس ، وقلد أبو سعد بشر بن الحسين ما كان إليه من قضاء القضاة ، واحتج على ابن معروف بالتقصير في حق عضد الدولة ، وبأنه ينفسح فيما لا ينبغي للقضاة مثله ، فأجاب عن ذلك فلم يلتفت إليه .

وفي شعبان: ورد رسول للعزيز صاحب مصر إلى عضد الدولة بكتاب [ ص: 269 ] وما زال يبعث إليه برسالة بعد رسالة ، فأجابه بما مضمونه صدق الطوية ، وحسن النية .

وسأل عضد الدولة الطائع في مورده الثاني إلى الحضرة أن يزيد في لقبه تاج الملة ، ويجدد الخلع عليه ، ويلبسه التاج والحلي المرصع بالجوهر ، فأجابه إلى ذلك وجلس الطائع على سرير الخلافة في صدر صحن السلام ، وحوله من خدمه الخواص نحو مائة بالمناطق والسيوف والزينة ، وبين يديه مصحف عثمان ، وعلى كتفيه البردة ، وبيده القضيب ، وهو متقلد سيف النبي صلى الله عليه وسلم ، وضرب ستارة بعثهاعضد الدولة ، وسأل أن يكون حجابا للطائع حتى لا يقع عليه عين أحد من الجند قبله .

ودخل الأتراك والديلم ، ولم يكن مع أحد منهم حديد ، ووقف الأشراف وأصحاب المراتب من الجانبين ، فلما وصل عضد الدولة أوذن به الطائع ؛ فأذن له ، فدخل ، فأمر برفع الستارة ، فقيل لعضد الدولة : قد وقع طرفه عليك ، فقبل الأرض ولم يقبلها أحد ممن معه تسليما للرقبة في تقبيل الأرض إليه؛ فارتاع زياد من بين القواد لما شاهد ، وقال بالفارسية: ما هذا أيها الملك ؟ ! أهذا هو الله عز وجل ؟ فالتفت إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف ، وقال له: فهمه وقل له: هذا خليفة الله في الأرض ، ثم استمر يمشي ويقبل الأرض تسع مرات .

والتفت الطائع إلى خالص الخادم ، وقال له: استدنه . فصعد عضد الدولة وقبل الأرض ، دفعتين . فقال له الطائع : ادن إلي ، ادن إلي . فدنا ، وأكب ، وقبل رجله ، وثنى الطائع يمينه عليه ، وكان بين يديه سريره مما يلي الجانب الأيمن للكرسي ، ولم يجلس ، فقال له ثانيا: اجلس . فأومأ ، ولم يجلس ، فقال له: أقسمت عليك لتجلسن ، فقبل الكرسي ، وجلس ، فقال له الطائع : ما كان أشوقنا إليك وأتوقنا إلى مفاوضتك! فقال: عذري معلوم . فقال: نيتك موثوق بها ، وعقيدتك مسكون إليها . وأومأ برأسه .

ثم قال له الطائع : قد رأيت أن أفوض إليك ما وكل الله تعالى إلي من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها ، وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي ، وما وراء بابي ، فتول ذلك مستخيرا بالله تعالى . فقال له عضد الدولة : يعينني الله عز وجل على طاعة مولانا [ ص: 270 ] وخدمته ، وأريد المطهر وعبد العزيز ووجوه القواد الذين دخلوا معي أن يسمعوا لفظ أمير المؤمنين . فأذنوا ، وقال الطائع : هاتوا الحسين بن موسى ، ومحمد بن عمرو بن معروف ، وابن أم شيبان ، والزينبي ، فقدموا؛ فأعاد الطائع لله القول بالتفويض إليه ، والتعويل عليه .

ثم التفت إلى طريف الخادم ، فقال: يا طريف ، يفاض عليه الخلع ، ويتوج . فنهض عضد الدولة إلى الرواق ، فألبس الخلع ، فخرج فأومأ ليقبل الأرض ، فلم يطق ، فقال له الطائع : [ حسبك ] حسبك . وأمره بالجلوس على الكرسي ، ثم استدعى الطائع تقديم ألويته ، فقدم لواءان ، واستخار الطائع لله عز وجل وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعقدهما ، ثم قال: يقرأ كتابه . فقرأ ، فقال له الطائع : خار الله لنا ولك وللمسلمين ، آمرك بما أمرك الله به ، وأنهاك عما نهاك الله عنه ، وأبرأ إلى الله مما سوى ذلك ، انهض على اسم الله . وأخذ الطائع سيفا كان بين المخدتين اللتين تليانه ، فقلده إياه مضافا إلى السيف الذي قلده مع الخلعة .

ولما أراد عضد الدولة أن ينصرف قال [ للطائع ] : إني أتطير أن أعود على عقبي فأسأل أن يؤمر بفتح هذا الباب لي . فأذن في ذلك ، وشاهد في الحال نحو ثلاثمائة صانع قد أعدهم عضد الدولة حتى هيئ للفرس مسقال ، وركب [ وسار ] الجيش مشاة إلى أن خرج من باب الخاصة ، ثم ركب القواد والجيش ، وسار في البلد . ثم بعث الطائع إليه بعد ثلاثة أيام هدية فيها غلالة قصب ، وصينية ذهب ، وخرداذي بلور ، وفيه شراب ناقص كأنه قد شرب بعضه ، وعلى فم الخرداذي خرقة حرير مشدودة مختومة ، وكأس بلور من هذا الفن ، فوافى أبو نصر [ الخازن ] ومعه من الأموال نحو ما ذكرنا في دخوله الأول في السنة الماضية ، ولما عاد عضد الدولة جلس للتهنئة ، فقال أبو إسحاق الصابي : على البديهة:

[ ص: 271 ]

يا عضد الدولة الذي علقت يداه من فخره بأعرقه     لبست للملك تاج ملته
فصل عرى غربة بمشرقه     أحرزت منك الجديد في عمر
أطاله الله غير مخلقه     يلوح منك الجبين بحاشية
لحاظنا في ضياء رونقه     كأنه الشمس في إنارتها
ويشبه البدر في تألقه     لما رأيت الرجال تنشده
من كل فحل القريض مغلقه     ألجأت نفسي إليك رؤيتها
لتطلب المدح طول منطقه     قال له خاطري بطمع أن
تساجل البحر في تدفقه     خفف وأوجز فقلت مختصرا
للقول في جده وأصدقه     يفتخر النعل تحت أخمصه
فكيف بالتاج فوق مفرقه

وفي شهر رمضان: بعث إلى ضبة بن محمد الأسدي ، وكان من أكابر الذعار ، وقد قتل النفوس ، ونهب الأموال ، وقد تحصن بعين التمر ، نيفا وثلاثين سنة ، والوصول إليها يصعب ، فلما طل عليه العسكر هرب وترك أهله وخاصته ، فأسر أكثرهم وملك البلد .

وفي يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة: تزوج الطائع لله بنت عضد الدولة الكبرى ، وعقد العقد بحضرة الطائع ، بمحضر من الأشراف ، والقضاة ، [ ص: 272 ] والشهود ، ووجوه الدولة على صداق مبلغه مائة ألف دينار ، وفي رواية: مائتي ألف دينار ، والوكيل عن عضد الدولة في العقد . أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي ، والخطيب الخاص القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي ،

وفي هذا الشهر: قلد أبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العلوي الحج ، وتولاه في موسم هذه السنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية