الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1012 ] وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه النفقة هي العطاء العاجل في باب من أبواب البر ، فهي عطاء منجز ، توجبه حاجة من يعطيه ، أو حاجة الجماعة التي يعيش فيها ، والضرورات الاجتماعية ، أو السياسية أو العسكرية لها . أما النذر فهو التزام طاعة من الطاعات ، أو عطاء في بر . ويقول الراغب : النذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر ، يقال نذرت قال تعالى : إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا وأصل مادة نذر من الخوف ; لأن الإنسان إنما يلتزم ما يلتزمه على نفسه مما ليس بلازم عليه خوف التقصير وخوف أن تضعف الإرادة البشرية في القيام بذلك الفعل الذي ليس واجبا في أصله . والصيغة المشهورة للنذر أن يقول : لله علي نذر أو نذرت لله كذا ، فهي في معناها تتضمن العهد الموثق لله .

                                                          ومعنى الجملة السامية : ما أنفقتم من نفقة عاجلة وأديتموها ، أو التزمتم بنفقة قابلة وعاهدتم الله على القيام بها ، فإن الله تعالى سبحانه وتعالى يعلمه ، فيعلم الباعث عليه أقصد ابتغاء مرضاة الله أم قصد به رئاء الناس ، أو كان من الطيب الذي يقبله الله ، أم تيمم الخبيث فلم يختر لله سواه ، وأتبعه منا وأذى ، وجرحا للكرامة وعزة النفس ، أم كان بطيب النفس ، ومن غير ذل ولا امتهان ; ثم يعلم سبحانه أوفى الناذر بنذره على الوجه الأكمل أم نكث عهده ، وأبطل ذمته ؟ يعلم الله سبحانه وتعالى ذلك كله ، يعلمه علم القادر القائم على كل شيء ، الذي يجازي المحسن إحسانا والمسيء إساءة ; فقوله تعالى : فإن الله يعلمه مع إيجازها أفادت فوائد جمة : أفادت الوعد والوعيد ، أفادت التبشير بالثواب والنعيم المقيم ورضوان الله تعالى ، وأفادت الإنذار بالعقاب ، لمن فسد قلبه ، فلم يقصد بعطائه وجه الله تعالى ، ولمن نقض عهده ، وأخل بذمته ; ثم أفادت مع ذلك تربية المهابة في قلب المؤمن ; فإن المؤمن إذا ذكر أن الله تعالى يعلم عمله ، أحس برقابته في خلجات نفسه ، وخصوصا أن الجملة السامية : فإن الله يعلمه صدرت بما يؤكدها . وذكر العليم الحكيم بلفظ الجلالة الدال على الاستحقاق الكامل للألوهية ، وانفراده سبحانه وتعالى بها ، فإن ذلك كله من شأنه أن يجعل المؤمن يحس بمقام الألوهية ، [ ص: 1013 ] ويشعر بحق العبودية ، فتخلص نيته ، ويخلص قلبه من كل الشوائب والأغراض الدنيوية .

                                                          وما للظالمين من أنصار ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية التي تفيد النفي المطلق لنصرة الظالمين ، ومعناها ليس للظالمين أي نصير في الدنيا والآخرة ، وهي تؤكد الوعيد في الجملة السابقة ، وتشير إلى أن الامتناع عن الإعطاء ظلم ، وليس للظالم نصير ; وأن الامتناع عن الإعطاء حقيقة هو ظلم ، فهو ظلم للجماعة ، لأنه منع صاحب الحق من حقه ; لأن الله سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين حكم بأن للفقير في مال الغني حقا معلوما ، ولا ظلم أفحش من أن يمنع صاحب الحق من حقه ، ولأن الممتنع عن العطاء يظلم نفسه ; لأنه يعرضها للهوان في الدنيا ، ولعذاب الله في الآخرة ، وهو يظلم نفسه وجماعته ; إذ إن الجماعة التي يشح فيها الغني بالعطاء لإمداد الجند المدافع ، ولإمداد الفقير وجعله يعيش عيشة آدمية محترمة - يبتليها الله تعالى ببلاء واقع ما له من دافع ، لأن ذلك الفقير إذا جوعته كان أداة هدم للجماعة ، فيكون الشذاب الذين يبدلون أمن الجماعة خوفا ، ويكون المنحرفون في تفكيرهم ومنازعهم الذين يهدمون بناء الجماعة ، ويقوضون كل قائم .

                                                          ونفي الأنصار يشمل النفي في الدنيا والآخرة كما قررنا ; أما نفيه في الآخرة فمعلوم ظاهر ثابت ، ونفيه في الآخرة يدركه البصير النافذ البصيرة ; فإن البخلاء بأموالهم عن مواطن الخير مبغضون إلى الناس ، لا يرضى عنهم أحد ، ولا يناصرهم أحد بالقول أو العمل ، وأحب الناس إلى الناس الباذل المعطي ، وأبغضهم إليهم الشحيح المانع .

                                                          والآية الكريمة تشير إلى أن الوفاء بالنذر مطلوب في العطاء ; فإنه اقترن بالإنفاق المطلوب الذي حث عليه القرآن الكريم في الآيات السابقة ، فكذلك ما اقترن به .

                                                          [ ص: 1014 ] وإنه من الحق علينا قبل أن ننتقل إلى تفسير الآية الآتية نتكلم في النذر :

                                                          إن العلماء يقسمون النذر إلى قسمين : نذر مطلق هو التزام بطاعة غير معلق على زمن ، ولم يكن المقصود منه الحض على فعل أو المنع من فعل ، أو الامتناع عن فعل ، أو توثيق فعل ، كأن يقول القائل : لله علي نذر أن أعتكف في العشر الأخيرة من رمضان ، أو : لله علي نذر أن أتصدق على الفقراء بعشرة جنيهات . فإن النذر في هذه الحال يجب الوفاء به ما دام طاعة باتفاق الفقهاء ويقسم الفخر الرازي في تفسيره الكبير هذا النذر إلى قسمين : مفسر وغير مفسر ، فالمفسر أن يقول مثلا : لله علي حج ، وهذا يلزم الوفاء به ، وغير المفسر أن يقول : لله علي نذر ، من غير أن يسمي النذر ويبينه فيلزمه فيه كفارة يمين لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر نذرا وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين " .

                                                          وهذا مذهب الشافعي ، ويلحق بالنذر غير المفسر في المذهب الشافعي النذر الذي يكون في معناه تحريض على فعل ، أو الامتناع من فعل ، كأن يقول : نذرت لله ألا أفعل كذا ثم يفعله ، فإنه يجب فيه كفارة يمين ; لأنه في معنى اليمين .

                                                          ولقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين " .

                                                          هذا إذا كان النذر التزاما مجردا من غير تعليق أو تقييد بمكان ; فقد اتفق الفقهاء على وجوب الوفاء به ما دام قربة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " . ولقوله تعالى . وليوفوا نذورهم فهو أمر حتمي لازم .

                                                          [ ص: 1015 ] أما إذا علق النذر على أمر سيقع في المستقبل كأن يقول : إن شفى الله مريضي مما ألم به فلله علي نذر أن أتصدق بمائة جنيه مثلا ، فقد اختلف الفقهاء فيه ; فقال الحنفية فيجب الوفاء بشروط ثلاثة : ألا يكون معصية وألا يكون واجبا ، وأن يكون قربة بحيث يكون من جنسه واجب ; فنذر المعصية باطل كما قدمنا ، وكنص الحديث الذي ذكرناه ; ونذر الواجب لا جدوى فيه ; لأنه واجب من تلقاء نفسه ; أما نذر القرب التي من جنسها واجبات كالصدقات والصيام والحج فإن الوفاء به واجب ، وهذا هو مذهب المالكية إلا أنه إذا كان النذر بجميع المال وجب الثلث فقط عندهم ، إن لم يكن المال معينا بالتعيين . والشافعي في قول اعتبر النذر المعلق على الشرط كاليمين تجب به كفارة ، كأن يقول : إن شربت الدخان وجب علي كذا صدقة ، فشرب ، فإنه تجب كفارة يمين .

                                                          ومذهب الإمام أحمد كما حققه العلامة ابن تيمية أن النذر المعلق على شرط إن قصد به التعليق حقيقة كـ : " إن جاء رمضان فلله علي نذر أن أعتكف العشرة الأخيرة منه " ، فهذا يجب الوفاء به ، وإن كان المقصود به الحض على فعل أو الامتناع عن فعل ، فإنه لا يجب الوفاء به ولكن تجب كفارة يمين ; لأنه حلف تجب فيه الكفارة .

                                                          وقد اتفق العلماء على عدم وجوب الوفاء في نذر المعصية ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " . وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا يجب شيء ; ولكن قال أحمد : تجب كفارة يمين ، للحديث الذي رواه أبو داود ونقلناه آنفا ; ففيه التصريح بأن نذر المعصية تجب فيه الكفارة ولأن منطق الحنابلة أن النذر الذي يكون فيه الحض على فعل أو منع فعل هو من قبيل اليمين ، واليمين في المعاصي حكمها أنه يجب الحنث فيها ، وتجب كفارة اليمين ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على شيء فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر " .

                                                          [ ص: 1016 ] هذه كلمة إجمالية في حكم النذر واختلاف أقوال الفقهاء فيه ، ومن المفيد في هذا الموضع أن نتكلم في أمرين :

                                                          أحدهما : في نذر القيام بقربة في مكان معين ، كالصدقة عند البيت الحرام ، أو عند المسجد الفلاني .

                                                          وثانيهما : هل النذر في ذاته حسن في الدين أو ليس بحسن ؟ فقد كان الكلام في وجوب الوفاء به . أما الكلام في هذا الموضع فهو في أصله أيكون من المستحسن أن يلتزم الإنسان الطاعة أم يفعلها ولا يقيد نفسه بالتزامها أولا ثم يفعلها ؟ .

                                                          أما بالنسبة للأمر الأول ، فقد اتفق الفقهاء على أن الالتزام بقربة في مكان تشد الرحال إليه وله مزيد اختصاص بالفضل في الشرع ، كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يجب الوفاء به ; فقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أنه لا تشد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة ، فالنذر بالصلاة فيها أو الصدقة عندها يجب الوفاء به ; لأن الصدقة في ذاتها قربة ، والاتجاه إلى الله في هذه الأمكنة بالذات قربة ثانية .

                                                          وأما إذا كان المكان الذي نذرت القربة فيه ليس من الأماكن التي تشد الرحال إليها ، فقد قال كثيرون من الفقهاء : تجب القربة من غير تقييد بالمكان ; فمن نذر أن يتصدق عند مسجد الحسين أو غيره فالوفاء واجب من غير تقيد بالمكان .

                                                          وقال بعض الفقهاء : يجب الوفاء بهذا المكان الذي عينه ، واستدلوا على ذلك بما روى أبو داود أن ثابت بن الضحاك قال : " نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أكان فيها وثن يعبد ؟ " قال : لا ، قال : " فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " فقال : لا ، فقال : " أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ، ولا في قطيعة رحم ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " .

                                                          [ ص: 1017 ] وبهذا يتبين أن الوفاء بالنذر واجب ما دام غير معصية ، وفي مكان لا معصية فيه ، ولكن هل النذر عند الأضرحة والقبور خال من المعصية ؟ إن ذلك موضع نظر ، والاحتياط في النذور أن تكون لله خالصة .

                                                          أما الأمر الثاني ، وهو التزام الطاعات بالنذور المطلقة أو النذور المعلقة على شرط ، أهو أمر مستحب ، أم الأولى خلافه وإن كان يجب الوفاء به إن التزمه ; لقد اختلف في ذلك الفقهاء ; فقال فريق كبير منهم : إن الأولى ألا ينذر العبادة ، بل يقوم بها متى قدر عليها من غير نذر ، وذلك لما روي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج الله به من البخيل " وإن أكثر النذور في الماضي كما هي في الحاضر تكون لرجاء أمر فتعلق القربة على وجوده ، أو للخوف من نتائج أمر فتعلق القربة على عدمه ، وإن تعليق القربة على ذلك أمر غير مستحسن ، بل هو مكروه ، بل صرح بعض الأئمة بأنه حرام ; ولقد قال ذلك القول كثيرون من فقهاء المذاهب الأربعة ، بل رواه أبو داود عن بعض الصحابة .

                                                          وقال آخرون : إن النذر مستحب ; لأنه يحمل الشخص على القيام بالقرب ، فهو تقوية للعزيمة على الطاعة ; ولقد صرح النووي في المجموع بأنه مستحب .

                                                          وعندي أن النذر غير المعلق على شرط قد يكون مستحبا لما فيه من حمل النفس على الإصرار على الطاعات ، وأما المعلق على شرط ، فهو الذي ينطبق عليه الحديث ، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يأتي بخير لمنع اعتقاد الناس ذلك ، وكثيرون يتوهمون أن النذر يغير القدر ، فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحة اعتقادهم . والله سبحانه هو القادر على كل شيء ، وله عاقبة الأمور .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية