الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 440 ] حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون

                                                                                                                                                                                                قيل : هو واد بالشام كثير النمل ، فإن قلت : لم عدي "أتوا" بعلى ؟ قلت : يتوجه على معنيين أحدهما : أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء ؛ كما قال أبو الطيب [من الكامل ] :


                                                                                                                                                                                                ولشد ما قربت عليك الأنجم



                                                                                                                                                                                                لما كان قربا من فوق . والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره ، من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم ، وقرئ "نملة يا أيها النمل " ، بضم الميم وبضم النون والميم ، وكان الأصل : النمل ، بوزن الرجل ، والنمل الذي عليه الاستعمال : تخفيف عنه ، كقولهم : "السبع" في السبع . قيل : كانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس ، فنادت : يا أيها النمل : الآية ، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال . وقيل : كان اسمها طاخية . وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس ، فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضرا -وهو غلام حدث- . فقال : سلوه عن نملة سليمان ، أكانت ذكرا أم أنثى ؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : من أين عرفت ؟ قال : من كتاب الله ، وهو قوله : قالت نملة ولو كانت ذكرا لقال : قال نملة ، [ ص: 441 ] وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر ، وحمامة أنثى ، وهو وهي . وقرئ : "مسكنكم ولا يحطمنكم" بتخفيف النون ، وقرئ : "لا يحطمنكم" بفتح الحاء وكسرها . وأصله : يحتطمنكم . ولما جعلها قائلة والنمل مقولا لهم كما يكون في أولي العقل : أجرى خطابهم مجرى خطابهم . فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو ؟ قلت : يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر ، والذي جوز أن يكون بدلا منه : أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة : لا أرينك ها هنا ، أراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ ، ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية