الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1788 - مسألة : وليس على من وجبت عليه يمين أن يحلف إلا بالله تعالى ، أو باسم من أسماء الله تعالى في مجلس الحاكم فقط ، كيفما شاء من قعود أو قيام أو غير ذلك من الأحوال ، ولا يبالي إلى أي جهة كان وجهه .

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف الناس في هذا - : فروينا عن مالك أنه بلغه أنه كتب إلى عمر بن الخطاب رجل من العراق : أن رجلا قال لامرأته : حبلك على غاربك ، فكتب عمر إلى عامله أن يوافيه الرجل بمكة في الموسم ، ففعل ، فأتاه الرجل - وعمر يطوف بالبيت - فقال لعمر : أنا الرجل الذي أمرت أن أجلب عليك فقال له عمر : أنشدك برب هذه البنية ما أردت بقولك " حبلك على غاربك " الفراق فقال له الرجل : لو استحلفتني في غير هذا المكان ما صدقتك ؟ أردت بذلك الفراق قال عمر : هو ما أردت .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد أن رجلا قال لامرأته في زمن عمر : حبلك على غاربك ثلاث مرات فاستحلفه عمر بين الركن والمقام فقال : أردت الطلاق ثلاثا ، فأمضاه عليه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح : أن رجلا قال لامرأته : حبلك على غاربك ، فسأل ابن مسعود فكتب إلى عمر ، فكتب عمر بأن يوافيه بالموسم ، فوافاه - وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الكشوري عن الحذافي عن عبد الرزاق نا معمر عن الزهري قال : استحلف معاوية في دم بين الركن والمقام .

                                                                                                                                                                                          وذكر الشافعي بغير إسناد : أن عبد الرحمن بن عوف أنكر التحليف عند الكعبة إلا في دم أو كثير من المال .

                                                                                                                                                                                          وأما فعل معاوية المذكور : فإننا رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن معاوية أحلف مصعب بن عبد الرحمن بن عوف ، [ ص: 459 ] ومعاذ بن عبيد الله بن معمر ، وعقبة بن جعونة بن شعوب الليثي في دم إسماعيل بن هبار بين الركن والمقام - وهؤلاء مدنيون استجلبهم إلى مكة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن شريح قال : يستحلف أهل الكتاب " بالله " حيث يكرهون .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى سفيان عن أيوب السختياني عن ابن سيرين أن كعب بن سوار أدخل يهوديا الكنيسة ووضع التوراة على رأسه واستحلفه بالله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أيوب السختياني عن ابن سيرين أن كعب بن سوار كان يحلف أهل الكتاب - يعني النصارى - يضع الإنجيل على رأسه ، ثم يأتي به إلى المذبح فيحلفه بالله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد نا محمد بن عبيد عن إسحاق بن أبي مسيرة قال : اختصم إلى الشعبي مسلم ونصراني ، فقال النصراني : أحلف بالله فقال له الشعبي : لا ، يا خبيث قد فرطت في الله ، ولكن اذهب إلى البيعة فاستحلفه بما يستحلف به مثله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك عن داود بن الحصين أنه سمع أبا غطفان بن طريف المري يقول : اختصم زيد بن ثابت ، وابن مطيع إلى مروان في دار ، فقضى مروان على زيد باليمين على المنبر فقال له زيد : أحلف له مكاني ؟ فقال له مروان : لا ، والله إلا في مقاطع الحقوق ، فجعل زيد يحلف أن حقه لحق ، ويأبى أن يحلف على المنبر فجعل مروان يعجب من زيد .

                                                                                                                                                                                          وقد روي أن عمر بن عبد العزيز أحلف عمال سليمان عند الصخرة في بيت المقدس .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الكشوري عن الحذافي عن عبد الرزاق عن إسرائيل عن سماك بن حرب عن الشعبي : أن أبا موسى الأشعري أحلف يهوديا بالله تعالى : فقال الشعبي : لو أدخله الكنيسة . [ ص: 460 ]

                                                                                                                                                                                          فهذا يوضح أن أبا موسى لم يدخله الكنيسة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد نا أزهر السمان عن عبد الله بن عون عن نافع أن ابن عمر كان وصي رجل فأتاه رجل بصك قد درست أسماء شهوده ، فقال ابن عمر : يا نافع اذهب به إلى المنبر فاستحلفه فقال : يا ابن عمر أتريد أن تسمع في الذي يسمعني ، ثم يسمعني هاهنا فقال ابن عمر : صدق فاستحلفه ، وأعطاه إياه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ليس في هذا أن ابن عمر كان يرى رد اليمين على الطالب ، وقد يكون ذلك الصك براءة من حق على ذلك الرجل فحقه اليمين ، إلا أن يقيم بينة بالبراءة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن شريك عن جابر عن رجل من ولد أبي الهياج أن علي بن أبي طالب بعث أبا الهياج قاضيا إلى السواد ، وأمر أن يحلفهم بالله .

                                                                                                                                                                                          ففي هذا : عن عمر بن الخطاب ، وابن مسعود : جلب رجل من العراق إلى مكة للحكم وإحلافه عند الكعبة ، واستحلاف معاوية في دم بين الركن والمقام ، وإنكار عبد الرحمن بن عوف الاستحلاف عند الكعبة ، إلا في دم أو كثير من المال .

                                                                                                                                                                                          وعن شريح ، والشعبي : استحلاف الكفار حيث يعظمون وكذلك كعب بن سوار - وزاد : وضع التوراة على رأس اليهودي ، والإنجيل على رأس النصراني .

                                                                                                                                                                                          وعن مروان : أن الاستحلاف بالمدينة عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وعن عمر بن عبد العزيز استحلاف العمال عند صخرة بيت المقدس .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن عمر ، وعلي ، وزيد ، وأبي موسى الأشعري : الاستحلاف " بالله " فقط حيث كان من مجلس الحاكم - .

                                                                                                                                                                                          وهو عن ابن عمر ، وزيد في غاية الصحة - وكذلك عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود على ما نذكره بعد هذا - إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وأما بماذا يحلفون - فقد ذكرنا قبل هذا في " باب الحكم بالنكول " تحليف عثمان لابن عمر " بالله " فقط .

                                                                                                                                                                                          وعن زيد بن ثابت الحلف بالله لقد باع العبد وما به داء يعلمه .

                                                                                                                                                                                          وذكرنا آنفا عن علي ، وأبي موسى استحلاف الكفار " بالله " فقط . [ ص: 461 ]

                                                                                                                                                                                          وعن زيد بن ثابت الحلف " بالله " فقط - وهو عنه ، وعن عثمان في غاية الصحة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد نا هشيم أنا المغيرة بن مقسم قال : كتب عمر بن عبد العزيز في أهل الكتاب أن يستحلفوا " بالله " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور أنا إسماعيل بن سالم سمعت الشعبي يقول في كلام كثير : إن لم يقيموا البينة فيمينه " بالله " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد عن مروان بن معاوية الفزاري عن يحيى بن ميسرة عن عمرو بن مرة قال : كنت مع أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وهو قاض فاختصم إليه : مسلم ، ونصراني ، فقضى باليمين على النصراني فقال له المسلم : استحلفه لي في البيعة ؟ فقال له أبو عبيدة : استحلفه " بالله " وخل سبيله - ونحوه عن عطاء .

                                                                                                                                                                                          وعن مسروق : استحلافهم بالله فقط .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إبراهيم النخعي : يستحلفون " بالله " ويغلظ عليهم بدينهم .

                                                                                                                                                                                          وعن شريح : أنه كان يستحلفهم بدينهم وقد ذكرناه قبل عن الشعبي .

                                                                                                                                                                                          وأما المتأخرون - فإن أبا حنيفة قال : يستحلف المسلم والكافر في مجلس الحاكم .

                                                                                                                                                                                          فأما المسلم فيستحلف " بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية " .

                                                                                                                                                                                          ويستحلف اليهودي " بالله الذي أنزل التوراة على موسى " .

                                                                                                                                                                                          ويستحلف النصراني " بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى " .

                                                                                                                                                                                          ويستحلف المجوسي " بالله الذي خلق النار " .

                                                                                                                                                                                          وكل هذا هو قول الشافعي ، إلا أنه لم يذكر في التحليف الطالب الغالب - ورأى أن يحلف في عشرين دينارا أو في جراح العمد عند المقام بمكة ، وعند منبر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وأن يحلف سائر أهل البلاد في جوامعهم .

                                                                                                                                                                                          وأما ما دون عشرين دينارا ففي مجلس الحاكم .

                                                                                                                                                                                          ورأى أن يحلف الكفار حيث يعظمون . [ ص: 462 ]

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : يحلفون في ثلاثة دراهم فصاعدا في مكة عند المقام ، وفي المدينة عند منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما سائر أهل البلاد فحيث يعظم من الجوامع - وتخرج المرأة المستورة لذلك ليلا .

                                                                                                                                                                                          وأما ما دون ثلاثة دراهم ففي مجلس الحاكم .

                                                                                                                                                                                          ويحلف المسلم والكافر " بالله الذي لا إله إلا هو " .

                                                                                                                                                                                          وقال أحمد بن حنبل : يحلف المسلم " بالله " في مجلس الحاكم في المصحف .

                                                                                                                                                                                          وأما الكافر فكما قال الشافعي فيهم سواء سواء .

                                                                                                                                                                                          وما روينا مثل قول مالك إلا عن شريح من طريق سعيد بن منصور نا هشيم ، نا داود عن الشعبي عن شريح : أنه قال في كلام كثير " ويمينك بالله الذي لا إله إلا هو " يعني على المطلوب .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة ، والشافعي فيما يستحلف به المسلم فما ندري من أين أخذاه ، ولا متعلق لهم فيه بقرآن ، ولا بسنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا بقول أحد قبل أبي حنيفة .

                                                                                                                                                                                          وقال بعضهم : قلنا على سبيل التأكيد في اليمين .

                                                                                                                                                                                          قلنا : ما هذا بتأكيد ; لأن الله تعالى إذا ذكر باسمه اقتضى القدرة والعلم وأنه لم يزل ، وأنه خالق كل شيء ، واقتضى كل ما يخبر به عن الله تعالى ، فإن أردتم أن تسلكوا مسلك الدعاء والتعبد فكان أولى بكم أن تزيدوا ما زاده الله تعالى إذ يقول : { الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون } الآية ، فزيدوا هكذا حتى تفنى أعماركم ، وتنقطع أنفاسكم ، وإنما نحن في مكان حكم لا في تفرغ لذكر وعبادة .

                                                                                                                                                                                          ثم أغرب شيء زيادة أبي حنيفة في أسماء الله تعالى : " الطالب الغالب " فما ندري من أين وقع عليه ، ومن كثر كلامه بما لم يؤمر به ، ولا ندب إليه - : كثر خطؤه - ونعوذ بالله من الضلال .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قصدنا بذلك التغليظ قلنا : فاجلبوهم من العراق وغيرها إلى مكة فهو أشد تغليظا كما روي عن عمر ، أو حلفوهم في المصحف كما قال أحمد بن حنبل ، فهو [ ص: 463 ] أشد تغليظا ، وحلفوهم بما ترونه أيمانا من الطلاق ، والعتاق ، وصدقة المال ، فهو عندكم أغلظ وأوكد من اليمين بالله ، فأي شيء قالوا رد عليهم في هذه الزيادات التي زادوها ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          أو نقول : حلفوهم ب " عليه لعنة الله إن كان كاذبا " قياسا على الملاعن ، أو ردوا عليه الأيمان كذلك .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله وقول الشافعي : أن يحلف النصراني " بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى " فعجب ، ولا ندري من أين أخذاه ، فما في الأمر لهم بهذه اليمين قرآن ، ولا سنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا قول صاحب أصلا .

                                                                                                                                                                                          وأعجب شيء جهل من يحلفهم بهذا ، وهم لا يعرفونه ولا يقرون به ، ولا قال نصراني قط : إن الله أنزل الإنجيل على عيسى ، وإنما الإنجيل عند جميع النصارى - لا نحاشي منهم أحدا - أربعة تواريخ - : ألف أحدها : متى - وألف الآخر : يوحنا - وهما عندهم حواريان .

                                                                                                                                                                                          وألف الثالث : مرقس - وألف الرابع : لوقا ، وهما تلميذان لبعض الحواريين عند كل نصراني على ظهر الأرض .

                                                                                                                                                                                          ولا يختلفون : أن تأليفها كان على سنين من رفع عيسى عليه السلام .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : حلفناهم بما هو الحق قلنا : فحلفوهم " بالقرآن " فهو حق .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : هم لا يقرون به .

                                                                                                                                                                                          قلنا : وهم لا يقرون بأن الإنجيل أنزله الله تعالى على عيسى عليه السلام ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          وأما تحليفهم اليهود " بالله الذي أنزل التوراة على موسى " فإنهم موهوا في ذلك بالخبرين الصحيحين - : أحدهما : من طريق البراء : { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر عليه يهودي محمم مجلود ، فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : لا ، ولولا أنك أنشدتني بهذا ما أخبرتك بحد الرجم } . [ ص: 464 ]

                                                                                                                                                                                          والآخر : من طريق أبي هريرة : { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لليهودي أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن قالوا : يحمم ويجبه ، وشاب منهم سكت - } وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن هذا التحليف لم يكن في خصومة ، وإنما كان في مناشدة ، ونحن لا نمنع المناشد أن ينشد بما شاء من تعظيم الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                          وليس فيهما : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يحلف هكذا فكان من ألزم ذلك في التحليف شارعا ما لم يأذن به الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وأما قول مالك يستحلف المسلم والكافر " بالله الذي لا إله إلا هو " فإنهم عولوا في ذلك على خبر : رويناه من طريق أبي داود نا مسدد نا أبو الأحوص نا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل أحلفه احلف : بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا حديث ساقط لوجهين - : أحدهما : أنه عن أبي يحيى - وهو مصدع الأعرج - وهو مجرح قطعت عرقوباه في التشيع .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية