الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

باب تحريم الخمر

قال الله (تعالى): يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما : هذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر ؛ لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافية مغنية؛ وذلك لقوله: قل فيهما إثم كبير ؛ والإثم كله محرم بقوله ( تعالى): قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم ؛ فأخبر أن الإثم محرم؛ ولم يقتصر على إخباره بأن فيها إثما حتى وصفه بأنه كبير؛ تأكيدا لحظرها.

وقوله: ومنافع للناس ؛ لا دلالة فيه على إباحتها؛ لأن المراد منافع الدنيا؛ وأن في سائر المحرمات منافع لمرتكبيها في دنياهم؛ إلا أن تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحق بارتكابها؛ فذكره لمنافعها غير دال على إباحتها؛ لا سيما وقد أكد حظرها مع ذكر منافعها؛ بقوله - في سياق الآية -: وإثمهما أكبر من نفعهما ؛ يعني أن ما يستحق بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي ينبغي منهما.

ومما نزل في شأن الخمر قوله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ؛ وليس في هذه الآية دلالة على تحريم ما لم يسكر منها؛ وفيها الدلالة على تحريم ما يسكر منها؛ لأنه إذا كانت الصلاة فرضا؛ نحن مأمورون بفعلها في أوقاتها؛ فكل ما أدى إلى المنع منها فهو محظور؛ فإذا كانت الصلاة ممنوعة في حال السكر؛ وكان شربها مؤديا إلى ترك الصلاة؛ كان محظورا؛ لأن فعل ما يمنع من الفرض محظور.

ومما نزل في شأن الخمر؛ مما لا مساغ للتأويل فيه؛ قوله (تعالى): إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ؛ إلى قوله: فهل أنتم منتهون ؛ فتضمنت هذه الآيات ذكر تحريمها من وجوه؛ أحدها قوله: رجس من عمل الشيطان ؛ وذلك لا يصح إطلاقه إلا فيما كان محظورا محرما؛ ثم أكده بقوله: فاجتنبوه ؛ وذلك أمر يقتضي لزوم اجتنابه؛ ثم قال (تعالى): فهل أنتم منتهون ؛ ومعناه: فانتهوا. فإن قيل: ليس في قوله ( تعالى): فيهما إثم كبير ؛ دلالة على تحريم القليل منها; لأن مراد الآية ما يلحق من المأثم بالسكر؛ وترك الصلاة؛ والمواثبة؛ [ ص: 4 ] والقتال؛ فإذا حصل المأثم بهذه الأمور فقد وفينا ظاهر الآية مقتضاها من التحريم؛ ولا دلالة فيه على تحريم القليل منها؛ قيل له: معلوم أن في مضمون قوله: فيهما إثم كبير ضمير شربها; لأن جسم الخمر هو فعل الله (تعالى)؛ ولا مأثم فيها؛ وإنما المأثم مستحق بأفعالنا فيها؛ فإذا كان الشرب مضمرا؛ كان تقديره: "في شربها؛ وفعل الميسر إثم كبير"؛ فيتناول ذلك شرب القليل منها؛ والكثير؛ كما لو حرمت الخمر لكان معقولا أن المراد به شربها؛ والانتفاع بها؛ فيقتضي ذلك تحريم قليلها؛ وكثيرها.

وقد روي في ذلك حديث: حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح؛ عن معاوية بن صالح ؛ عن علي بن أبي طلحة ؛ عن ابن عباس ؛ في قوله: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ؛ قال: الميسر هو القمار؛ كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله؛ وماله؛ وقال: وقوله (تعالى): لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال: كانوا لا يشربونها عند الصلاة؛ فإذا صلوا العشاء شربوها؛ ثم إن ناسا من المسلمين شربوها؛ فقاتل بعضهم بعضا؛ وتكلموا بما لا يرضي الله - عز وجل - فأنزل الله: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ؛ قال: فالميسر: القمار؛ والأنصاب: الأوثان؛ والأزلام: القداح؛ كانوا يستقسمون بها.

قال: وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ؛ عن سفيان ؛ عن أبي إسحاق ؛ عن أبي ميسرة قال: قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر؛ فنزلت: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ؛ فقال: اللهم بين لنا في الخمر؛ فنزلت: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ؛ فقال: اللهم بين لنا في الخمر؛ فنزلت: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ؛ إلى قوله: فهل أنتم منتهون ؛ فقال عمر : انتهينا؛ إنها تذهب المال؛ وتذهب العقل. قال: وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا المغيرة عن أبي رزين قال: شربت الخمر بعد الآية التي نزلت في البقرة؛ وبعد الآية التي في النساء؛ فكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة؛ فإذا حضرت تركوها؛ ثم حرمت في المائدة؛ في قوله: فهل أنتم منتهون ؛ فانتهى القوم عنها؛ فلم يعودوا فيها. فمن الناس من يظن أن قوله: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ؛ لم يدل على التحريم; لأنه لو كان دالا لما شربوه؛ ولما أقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولما سأل عمر البيان بعده؛ وليس هذا كذلك عندنا؛ وذلك لأنه جائز أن يكونوا تأولوا في قوله: [ ص: 5 ] ومنافع للناس ؛ جواز استباحة منافعها؛ فإن الإثم مقصور على بعض الأحوال دون بعض؛ فإنما ذهبوا عن حكم الآية بالتأويل؛ وأما قوله: إنها لو كانت حراما لما أقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على شربها؛ فإنه ليس في شيء من الأخبار علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشربها؛ ولا إقرارهم عليه بعد علمه. وأما سؤال عمر - رضي الله عنه - بيانا بعد نزول هذه الآية؛ فلأنه كان للتأويل فيه مساغ؛ وقد علم هو وجه دلالتها على التحريم؛ ولكنه سأل بيانا يزول معه احتمال التأويل؛ فأنزل الله (تعالى): إنما الخمر والميسر ؛ الآية.

ولم يختلف أهل النقل في أن الخمر قد كانت مباحة في أول الإسلام؛ وأن المسلمين قد كانوا يشربونها بالمدينة؛ ويتبايعون بها؛ مع علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ وإقرارهم عليه؛ إلى أن حرمها الله (تعالى)؛ فمن الناس من يقول: إن تحريمها على الإطلاق إنما ورد في قوله: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ؛ إلى قوله: فهل أنتم منتهون ؛ وقد كانت محرمة قبل ذلك في بعض الأحوال؛ وهي أوقات الصلاة؛ بقوله: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ؛ وأن بعض منافعها قد كان مباحا؛ وبعضها محظورا؛ بقوله: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ؛ إلى أن أتم تحريمها بقوله: فاجتنبوه ؛ وقوله: فهل أنتم منتهون ؛ وقد بينا ما يقتضيه ظاهر كل واحد من حكم الآيات من حكم التحريم.

وقد اختلف فيما يتناوله اسم الخمر من الأشربة ؛ فقال الجمهور الأعظم من الفقهاء: اسم الخمر في الحقيقة يتناول الني المشتد من ماء العنب؛ وزعم فريق من أهل المدينة؛ ومالك ؛ والشافعي ؛ أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فهو خمر؛ والدليل على أن اسم الخمر مخصوص بالني المشتد من ماء العنب؛ دون غيره؛ وأن غيره إن سمي بهذا الاسم فإنما هو محمول عليه؛ ومشبه به على وجه المجاز؛ حديث أبي سعيد الخدري ؛ قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بنشوان؛ فقال له: "أشربت خمرا؟"؛ فقال: ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله؛ قال: "فماذا شربت؟"؛ قال: الخليطين؛ قال: فحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخليطين. فنفى الشارب اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلم ينكره عليه؛ ولو كان ذلك يسمى خمرا من جهة لغة؛ أو شرع؛ لما أقره عليه؛ إذ كان في نفي التسمية؛ التي علق بها حكم؛ نفي الحكم؛ ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر أحدا على حظر مباح؛ ولا على استباحة محظور؛ وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر منتف عن سائر الأشربة؛ إلا من الني المشتد من ماء العنب؛ لأنه إذا كان الخليطان لا يسميان خمرا؛ مع وجود قوة الإسكار منهما؛ علمنا أن الاسم مقصور على ما وصفنا؛ ويدل عليه [ ص: 6 ] ما حدثنا عبد الباقي بن قانع؛ قال: حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال: حدثنا العباس بن بكار قال: حدثنا عبد الرحمن بن بشير الغطفاني؛ عن أبي إسحاق ؛ عن الحارث ؛ عن علي - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأشربة عام حجة الوداع؛ فقال: "حرام الخمر بعينها؛ والسكر من كل شراب".

قال عبد الباقي: وحدثنا محمد بن زكريا العلائي قال: حدثنا شعيب بن واقد قال: حدثنا قيس؛ عن قطن؛ عن منذر؛ عن محمد بن الحنفية ؛ عن علي ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا عياش بن الوليد قال: حدثنا علي بن عباس قال: حدثنا سعيد بن عمارة قال: حدثنا الحارث بن النعمان قال: سمعت أنس بن مالك يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخمر بعينها حرام؛ والسكر من كل شراب".

وقد روى عبد الله بن شداد عن ابن عباس من قوله مثل ذلك. وروي عنه أيضا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد حوى هذا الخبر معاني؛ منها أن اسم الخمر مخصوص بشراب بعينه؛ دون غيره؛ وهو الذي لم يختلف في تسميته بها؛ دون غيرها؛ من ماء العنب؛ وأن غيرها من الأشربة غير مسمى بهذا الاسم؛ لقوله: "والسكر من كل شراب"؛ وقد دل أيضا على أن المحرم من سائر الأشربة هو ما يحدث عنده السكر؛ لولا ذلك لما اقتصر منها على السكر؛ دون غيره؛ ولما فصل بينها وبين الخمر في جهة التحريم؛ ودل أيضا على أن تحريم الخمر حكم مقصور عليها؛ غير متعد إلى غيرها قياسا؛ ولا استدلالا؛ إذ علق حكم التحريم بعين الخمر دون معنى فيها سواها؛ وذلك ينفي جواز القياس عليها؛ لأن كل أصل ساغ القياس عليه فليس الحكم المنصوص عليه مقصورا عليه؛ ولا متعلقا به بعينه؛ بل يكون الحكم منصوبا على بعض أوصافه؛ مما هو موجود في فروعه؛ فيكون الحكم تابعا للوصف؛ جاريا معه في معلولاته؛ ومما يدل على أن سائر الأشربة المسكرة لا يتناولها اسم الخمر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة عنه: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة؛ والعنبة". فقوله: "الخمر"؛ اسم للجنس؛ لدخول الألف واللام عليه؛ فاستوعب به جميع ما يسمى بهذا الاسم؛ فلم يبق شيء من الأشربة يسمى به إلا وقد استغرقه ذلك؛ فانتفى بذلك أن يكون ما يخرج من غير هاتين الشجرتين يسمى خمرا؛ ثم نظرنا فيما يخرج منهما؛ هل جميع الخارج منهما مسمى باسم الخمر؛ أم لا؛ فلما اتفق الجميع على أن كل ما يخرج منهما من الأشربة غير مسمى باسم الخمر; لأن العصير؛ والدبس؛ والخل؛ ونحوه من هاتين الشجرتين ؛ ولا يسمى شيء منه خمرا؛ علمنا أن مراده بعض الخارج من هاتين الشجرتين ؛ [ ص: 7 ] وذلك البعض غير مذكور في الخبر؛ فاحتجنا إلى الاستدلال على مراده من غيره؛ في إثبات اسم الخمر للخارج منهما؛ فسقط الاحتجاج به في تحريم جميع الخارج منهما؛ وتسميته باسم الخمر؛ ويحتمل مع ذلك أن يكون مراده أن الخمر أحدهما؛ كقوله (تعالى): يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ؛ و يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ؛ والمراد أحدهما؛ فكذلك جائز أن يكون المراد في قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين"؛ أحدهما؛ فإن كان المراد هما جميعا فإن ظاهر اللفظ يدل على أن المسمى بهذا الاسم هو أول شراب يصنع منهما; لأنه لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله: "من هاتين الشجرتين"؛ بعض كل واحدة منهما؛ لاستحالة كون بعضها خمرا؛ دل على أن المراد أول خارج منهما من الأشربة; لأن " من" يعتورها معان في اللغة ؛ منها التبعيض؛ ومنها الابتداء؛ كقولك: "خرجت من الكوفة"؛ و"هذا كتاب من فلان"؛ وما جرى مجرى ذلك؛ فيكون معنى "من" في هذا الموضع على ابتداء ما يخرج منهما؛ وذلك إنما يتناول العصير المشتد؛ والدبس السائل من النخل إذا اشتد؛ ولذلك قال أصحابنا فيمن حلف "لا يأكل من هذه النخلة شيئا": إنه على رطبها؛ وتمرها؛ ودبسها؛ لأنهم حملوا "من" ما ذكرنا من الابتداء.

قال أبو بكر : ويدل على ما ذكرنا من انتفاء اسم الخمر عن سائر الأشربة؛ إلا ما وصفنا؛ ما روي عن ابن عمر أنه قال: "لقد حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة يومئذ منها شيء"؛ وابن عمر رجل من أهل اللغة؛ ومعلوم أنه قد كان بالمدينة السكر؛ وسائر الأنبذة المتخذة من التمر; لأن تلك كانت أشربتهم؛ ولذلك قال جابر بن عبد الله : "نزل تحريم الخمر وما يشرب الناس يومئذ إلا البسر؛ والتمر"؛ وقال أنس بن مالك : "كنت ساقي عمومتي من الأنصار حين نزل تحريم الخمر ؛ فكان شرابهم يومئذ الفضيح؛ فلما سمعوا أراقوها"؛ فلما نفى ابن عمر اسم الخمر عن سائر الأشربة التي كانت بالمدينة دل ذلك على أن الخمر عنده كانت شراب العنب الني المشتد؛ وأن ما سواها غير مسمى بهذا الاسم؛ ويدل عليه أن العرب كانت تسمي الخمر سبيئة؛ ولم تكن تسمي بذلك سائر الأشربة المتخذة من تمر النخل; لأنها كانت تجلب إليها من غير بلادها؛ ولذلك قال الأعشى:


وسبيئة مما يعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريا لها



وتقول: "سبأت الخمر"؛ إذا شريتها؛ فنقلوا الاسم إلى المشترى بعد أن كان الأصل إنما هو بجلبها من موضع إلى موضع؛ على عادتها في الاتساع في الكلام؛ ويدل عليه أيضا قول [ ص: 8 ] أبي الأسود الدؤلي - وهو رجل من أهل اللغة؛ حجة فيما قال منها -:


دع الخمر تشربها الغواة فإنني ...     رأيت أخاها مغنيا لمكانها


فإن لا تكنه أو يكنها فإنه ...     أخوها غذته أمه بلبانها



فجعل غيرها من الأشربة أخا لها بقوله: "رأيت أخاها مغنيا لمكانها"؛ ومعلوم أنه لو كان يسمى خمرا لما سماه أخا لها؛ ثم أكده بقوله: "فإن لا تكنه أو يكنها فإنه أخوها"؛ فأخبر أنها ليست هو؛ فثبت بما ذكرنا من الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وعن الصحابة؛ وأهل اللغة؛ أن اسم الخمر مخصوص بما وصفنا؛ ومقصور عليه دون غيره؛ ويدل على ذلك أنا وجدنا بلوى أهل المدينة بشرب الأشربة المتخذة من التمر؛ والبسر؛ كانت أعم منها بالخمر؛ وإنما كانت بلواهم بالخمر – خاصة - قليلة؛ لقلتها عندهم؛ فلما عرف الكل من الصحابة تحريم الني المشتد؛ واختلفوا فيما سواها؛ وروي عن عظماء الصحابة - مثل عمر ؛ وعبد الله؛ وأبي ذر ؛ وغيرهم - شرب النبيذ الشديد؛ وكذلك سائر التابعين؛ ومن بعدهم من أخلافهم من الفقهاء؛ من أهل العراق؛ لا يعرفون تحريم هذه الأشربة؛ ولا يسمونها باسم الخمر؛ بل ينفونه عنها؛ دل ذلك على معنيين؛ أحدهما أن اسم الخمر لا يقع عليها؛ ولا يتناولها; لأن الجميع متفقون على ذم شارب الخمر؛ وأن جميعها محرم؛ محظور؛ والثاني أن النبيذ غير محرم; لأنه لو كان محرما لعرفوا تحريمهم كمعرفتهم بتحريم الخمر؛ إذ كانت الحاجة إلى معرفة تحريمها أمس منها إلى معرفة تحريم الخمر ؛ لعموم بلواهم بها؛ دونها؛ وما عمت البلوى من الأحكام؛ فسبيل وروده نقل التواتر الموجب للعلم؛ والعمل؛ وفي ذلك دليل على أن تحريم الخمر لم يعقل به تحريم هذه الأشربة؛ ولا عقل الخمر اسما لها؛ واحتج من زعم أن سائر الأشربة التي يسكر كثيرها خمر؛ بما روي عن ابن عمر ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كل مسكر خمر ؛ وبما روي عن الشعبي ؛ عن النعمان بن بشير ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الخمر من خمسة أشياء: التمر؛ والعنب؛ والحنطة؛ والشعير؛ والعسل"؛ وروي عن عمر ؛ من قوله؛ نحوه؛ وبما روي عن عمر : "الخمر ما خامر العقل"؛ وبما روي عن طاوس ؛ عن ابن عباس ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كل مخمر خمر؛ وكل مسكر حرام ؛ وبما روي عن أنس ؛ قال: "كنت ساقي القوم؛ حيث حرمت الخمر؛ في منزل أبي طلحة ؛ وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيح؛ فحين سمعوا تحريم الخمر أهراقوا الأواني؛ وكسروها؛ وقالوا: فقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأشربة خمرا"؛ وكذلك عمر ؛ وأنس ؛ وعقلت الأنصار من تحريم الخمر تحريم الفضيح؛ وهو نقيع البسر؛ ولذلك [ ص: 9 ] أراقوها؛ وكسروا الأواني.

ولا تخلو هذه التسمية من أن تكون واقعة على هذه الأشربة من جهة اللغة؛ أو الشرع؛ وأيهما كان فحجته ثابتة؛ والتسمية صحيحة؛ فثبت بذلك أن ما أسكر من الأشربة كثيره فهو خمر؛ وهو محرم بتحريم الله (تعالى) إياها؛ من طريق اللفظ.

والجواب عن ذلك؛ وبالله التوفيق: أن الأسماء على ضربين؛ ضرب سمي به الشيء حقيقة لنفسه؛ وعبارة عن معناه؛ والضرب الآخر ما سمي به الشيء مجازا؛ فأما الضرب الأول فواجب استعماله؛ حيثما وجد؛ وأما الضرب الآخر فإنما يجب استعماله عند قيام الدلالة عليه؛ نظير الضرب الأول قوله (تعالى): يريد الله ليبين لكم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ؛ فأطلق لفظ الإرادة في هذه المواضع حقيقة؛ ونظير الضرب الثاني قوله: فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ؛ فإطلاق لفظ الإرادة في هذا الموضع مجاز؛ لا حقيقة؛ ونحو قوله: إنما الخمر والميسر ؛ فاسم الخمر في هذا الموضع حقيقة فيما أطلق فيه؛ وقال في موضع آخر: إني أراني أعصر خمرا ؛ فأطلق اسم الخمر في هذا الموضع مجازا; لأنه إنما يعصر العنب؛ لا الخمر؛ ونحو قوله (تعالى): ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ؛ فاسم القرية فيها حقيقة؛ وإنما أراد البنيان؛ ثم قوله: واسأل القرية التي كنا فيها ؛ مجاز؛ لأنه لم يرد بها ما وضع اللفظ له حقيقة؛ وإنما أراد أهلها؛ وتنفصل الحقيقة من المجاز بأن ما لزم مسمياته فلم ينتف عنها بحال؛ فهو حقيقة فيها؛ وما جاز انتفاؤه عن مسمياته فهو مجاز؛ ألا ترى أنك إذا قلت: إنه ليس للحائط إرادة؛ كنت صادقا؛ ولو قال قائل: إن الله لا يريد شيئا؛ أو: الإنسان العاقل ليست له إرادة؛ كان مبطلا في قوله؟ وكذلك جائز أن تقول: إن العصير ليس بخمر؛ وغير جائز أن يقال: إن الني المشتد من ماء العنب ليس بخمر؛ ونظائر ذلك كثيرة في اللغة؛ والشرع؛ والأسماء الشرعية في معنى أسماء المجاز لا تتعدى بها مواضعها التي سميت بها؛ فلما وجدنا اسم الخمر قد ينتفي عن سائر الأشربة سوى الني المشتد من ماء العنب علمنا أنها ليست بخمر في الحقيقة.

والدليل على جواز انتفاء اسم الخمر عما وصفنا حديث أبي سعيد الخدري ؛ قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنشوان؛ فقال: "أشربت خمرا؟"؛ فقال: والله ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله؛ قال: "فماذا شربت؟"؛ قال: شربت الخليطين؛ فحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخليطين يومئذ؛ فنفى اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأقره عليه؛ ولم ينكره؛ فدل ذلك على أنه ليس بخمر؛ وقال ابن عمر : "حرمت الخمر وما بالمدينة يومئذ منها شيء"؛ فنفى اسم الخمر عن أشربة تمر [ ص: 10 ] النخل؛ مع وجودها عندهم يومئذ؛ ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الخمر من هاتين الشجرتين"؛ وهو أصح إسنادا من الأخبار التي ذكر فيها أن الخمر من خمسة أشياء ؛ فنفى بذلك أن يكون ما خرج من غيرهما خمرا؛ إذ كان قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين"؛ اسما للجنس؛ مستوعبا لجميع ما يسمى بهذا الاسم؛ فهذا الخبر معارض ما روي من أن الخمر من خمسة أشياء ؛ وهو أصح إسنادا منه؛ ويدل عليه أنه لا خلاف أن مستحل الخمر كافر؛ وأن مستحل هذه الأشربة لا تلحقه سمة الفسق؛ فكيف بأن يكون كافرا؟! فدل ذلك على أنها ليست بخمر في الحقيقة؛ ويدل عليه أن خل هذه الأشربة لا يسمى خل خمر؛ وأن خل الخمر هو الخل المستحيل من ماء العنب الني المشتد؛ فإذا ثبت بما ذكرنا انتفاء اسم الخمر عن هذه الأشربة ثبت أنه ليس باسم لها في الحقيقة؛ وأنه إن ثبت تسميتها باسم الخمر في حال فهو على جهة التشبيه بها عند وجود السكر منها؛ فلم يجز أن يتناولها إطلاق تحريم الخمر لما وصفنا من أن أسماء المجاز لا يجوز دخولها تحت إطلاق أسماء الحقائق؛ فينبغي أن يكون قوله: "الخمر من خمسة أشياء"؛ محمولا على الحال التي يتولد منها السكر؛ فسماها باسم الخمر في تلك الحال؛ لأنها قد عملت عمل الخمر في توليد السكر؛ واستحقاق الحد؛ ويدل على أن هذه التسمية إنما تستحقها في حال توليدها السكر؛ قول عمر : " الخمر ما خامر العقل"؛ وقليل النبيذ لا يخامر العقل؛ لأن ما خامر العقل هو ما غطاه؛ وليس ذلك بموجود في قليل ما أسكر كثيره من هذه الأشربة؛ وإذا ثبت بما وصفنا أن اسم الخمر مجاز في هذه الأشربة فلا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه؛ فلا يجوز أن ينطوي تحت إطلاق تحريم الخمر ؛ ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - قد سمى فرسا لأبي طلحة ركبه لفزع كان بالمدينة فقال: "وجدناه بحرا"؛ فسمى الفرس "بحرا"؛ إذ كان جوادا واسع الخطو؟ ولا يعقل إطلاق اسم البحر على الفرس الجواد؛ وقال النابغة للنعمان بن المنذر:


فإنك شمس والملوك كواكب ...     إذا طلعت لم يبد منهن كوكب



ولم تكن الشمس اسما له؛ ولا الكواكب اسما للملوك؛ فصح بما وصفنا أن اسم الخمر لا يقع على هذه الأشربة التي وصفنا؛ وأنه مخصوص بماء العنب الني المشتد حقيقة؛ وإنما يسمى به غيرها مجازا؛ والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية