الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1018 ] إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ( 271 ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون

                                                          * * *

                                                          في الآيات السابقة حذر الله سبحانه وتعالى المنفقين من أدواء الصدقات التي تفتك بها وتذهب بخيرها ، وهي أعداء الإخلاص الثلاثة : المن ، والأذى ، والرياء .

                                                          والمن والأذى عملان حسيان قد يسهل على المؤمن اجتنابهما ، أما الرياء فهو داء نفسي الاحتياط في تجنبه يوجب تفتيش النفس في داخليتها ، ومراقبتها في حركتها ، والتنقيب عن بواعثها ، فإن كانت تتصل بالرياء عن قرب أو بعد طهرها وزكاها ، وإن سلمت منه فقد برئت واصعدت إلى سماء التقديس ، وإن المؤمن في سبيل هذه المعالجة الروحية عند الإنفاق قد يتردد بين الإعلان ليكون أسوة حسنة للناس ، إذ يعلن حق الله في ماله فيعرف كل ذي مال ذلك ، ولكنه يخشى أن يجد الرياء منفذا إلى نفسه من هذه الناحية ، وإن أخفاها وسترها عن الأعين ، فقد يضل في العطاء ، فيعطي من لا يستحق العطاء ، ولا يكون إعلان تلك الشعيرة المقدسة ، شعيرة الصدقة التي تثير نخوة ذي المال ، فيقتطع من ماله حق الله فيه .

                                                          ولقد بين سبحانه أن في الإخفاء خيرا كثيرا ، والجهر محمود إن نقي من كل أعراض الرياء ، فقال تعالى : [ ص: 1019 ] إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم هذه الآية الكريمة تفيد أن الصدقات في كل أحوالها خير محض ما دام المنفق قد خلص من الرياء ، وجانب المن والأذى ; وإذا كان ثمة تفاوت فهو في حال النفس ، والاحتياط للرياء ، وسد مداخله ، ولذا قال تعالى مادحا النوعين من الصدقة : صدقة الجهر ، وصدقة السر : إن تبدوا الصدقات فنعما أي إن تظهروا صدقاتكم وتعلنوها بين الناس فنعم تلك الصدقة ، أي أنها أمر محمود ممدوح يوجب الثناء والذكر الحسن ; فقوله تعالى : فنعما هي هو نعم المدغمة في ما ، وما هي التي يقول عنها علماء اللغة إنها نكرة تامة بمعنى : شيء ، والمعنى نعم شيئا يستحق المدح والثناء تلك الصدقات . وعبر في قوله عن الإنفاق بالصدقات هنا ، للإشارة إلى أن الممدوح من الإنفاق المعلن هو الصدقات التي يقصد فيها الشخص إلى إرضاء الرب ، وتصدق فيها نيته ، ويخلص قلبه ; لأن كلمة ( الصدقة ) مأخوذة من الصدق ، والصدق هنا هو صدق النية وتخليصها من كل شوائب الرياء . وإذا كانت الصدقة التي خلصت النية فيها لوجه الله تعالى هي موضع مدح وثناء ولا ذم فيها قط ، فهي خير بلا شك . وذكرت خيريته بعبارات المدح والثناء دون التصريح بالخيرية ، للإشارة إلى أنها ممدوحة عند الله كما هي ممدوحة عند الناس ; إذ إن المعلن لصدقته سينال ثناء الناس ، وسيتحدثون بجوده ; فبين سبحانه أن عمله ممدوح عند الناس أيضا وبذلك ينال المتصدق المخلص في نيته ومقصده إن أعلن ، ثواب الله ، وثناء الناس ، وثناء الشرع .

                                                          هذه صدقة الجهر إن خلصت من الرياء ; أما صدقة السر فقد أثنى عليها سبحانه بقوله تعالى : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم أي إن تخفوا الصدقات التي خلصت فيها النية وتؤتوها الفقراء بأنفسكم فهو خير لكم ; لأن البعد عن الرياء يكون أوثق ; إذ في السرية سد لكل ذرائع الرياء ، ولذلك كان السر خيرا للمعطي ; إذ فيه احتياط لنفسه من أن يدخلها داء الإنفاق ، وهو الرياء ; فإذا كان في الجهر فائدة الثناء ، ففي السر فائدة الاحتياط من الرياء ; وذلك خير من كل ثناء . ثم [ ص: 1020 ] صدقة السر خير في ذاتها كصدقة الجهر ، وفوق ذلك فإن صدقة السر خير للفقير ; لأنها تستره بستر الله ، فلا يجتمع عليه ذل الفقر ، وذل الأخذ ، وذل الإعلان والكشف .

                                                          والتعبير في نفقة السر بقوله تعالى : وتؤتوها الفقراء فيه إشارة إلى ثلاثة أمور :

                                                          أولها : أن الصدقة قسمان : قسم يعطى إلى الحكام ، وهو الصدقات المفروضة التي قدرها الشارع ; فهذه يجمعها أولو الأمر ومن ينوبون عنهم من ولاة وعمال ، أو جماعات يختارونها لذلك وهذه تكون معلنة بلا ريب . والقسم الثاني يعطى الفقراء مباشرة وهو الصدقات غير المفروضة ، والصدقات المفروضة غير المقدرة التي تكون على حسب حال الشخص ، كمن يرى شخصا في مخمصة وجوع ، ويخشى عليه من الموت فإن الصدقة تكون فرضا على من يعلم حاله ; وهذه الصدقات التي تعطى الفقراء مباشرة يكون السر فيها أولى ، بل أكاد أقول إنه يكون لازما ; لأن الإعلان أذى ، وقد قرر المولى العلي القدير أن الأذى يبطل الصدقة في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى

                                                          الأمر الثاني : الذي يفيده التعبير بقوله تعالى : وتؤتوها الفقراء الإشارة إلى وجوب تحري صفة الفقر فيمن يعطى ، فلا يعطى إلا ذا حاجة ، ولا يكون من الصدقات ما يعطى لغير الفقراء ; لأنه يكون مروءة أو جودا ولا يكون صدقة يبتغى بها ما عند الله ، إذ يبتغي بها ما عند الناس ; وإن ذلك وإن كان من نظام الدنيا ليس من الصدقة في شيء .

                                                          الأمر الثالث : أن الإعطاء في هذه الصدقات بوصف الفقر ، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم ، ولا بر أو فاجر ; فإذا كان غير المسلم في حال مخمصة ولا يعلم حاله إلا مسلم فرض عليه أن يدفع عنه مخمصته ; فإن ذلك من الرحمة المفروضة لكل إنسان ; ولذا ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1021 ] قال : " في كل كبد رطبة أجر " وفي رواية لغيرهما " في كل كبد حرى أجر " فهذا يدل على أن الرحمة بكل الأحياء فيها أجر ، فكيف بالرحمة بالإنسان .

                                                          بعد بيان أن صدقة السر فيها خير وصدقة الجهر موضع ثناء ومدح ، قال سبحانه : ويكفر عنكم من سيئاتكم أي أنه سبحانه وتعالى يستر السيئات التي يرتكبها الشخص ، ويخفيها ولا يظهرها عند الثواب والجزاء ، فلا يحاسب عليها أصحابها إذا تصدقوا وأعطوا مبتغين وجه الله تعالى في صدقاتهم . و " من " في قوله تعالى : من سيئاتكم إما أن تكون " من " البيانية ، والمعنى أن الصدقات تكفر السيئات وإما أن تكون " من " الدالة على البعضية ، أي أن الله سبحانه وتعالى يكفر للمتصدقين من الخطايا بمقدار ما يتصدقون من صدقات ، وينفقون ابتغاء وجه الله تعالى . وعندي أن " من " بيانية ; لأن النفس التي تفيض خيراتها وتتجه إلى الله تعالى في صدقاتها لا تبغي إلا مرضاته ، فلا تبغي رياء ولا نفاقا ، ولا جاها في الدنيا ، نفس برة تقية لم تحط بها خطيئاتها والنفس التي تكون على هذا النحو لا تسيطر عليها المعاصي ، فيكون غفران الله تعالى لما كان منها من سيئات في بعض الأحوال .

                                                          وقوله : ويكفر عنكم من سيئاتكم قال بعض العلماء : إنه بالنسبة لصدقة السر ; ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " صدقة السر تطفئ غضب الرب " وقال بعضهم : إن الصدقة بنوعيها تكفر السيئات ; وذلك أوضح من الأول ; لأن الصدقة إن سلمت من الرياء وقدمها الشخص طائعا مختارا ولو بإعلان هي حسنة مقبولة ، والله سبحانه وتعالى يقول : إن الحسنات يذهبن السيئات ولقد روي أن [ ص: 1022 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " الصدقة تطفئ المعصية " ولأن من الصدقات ما لا يمكن إلا أن تكون معلنة كشراء سيدنا عثمان بن عفان لبئر رومة ووقفها على المسلمين ; فلا يمكن أن تكون تلك الصدقات المعلنة التي يبتغى فيها وجه الله غير مكفرة للسيئات ، وقد أعد عثمان جيش العسرة ، فهل يغض ذلك من صدقته . ولذا نرى أن تكفير الصدقات للسيئات لا يختص بصدقات السر وحدها ، بل يعم الصدقات كلها . ولقد أثار العلماء بحثا في أيهما أفضل : صدقة السر أم صدقة الجهر ؟ وقبل أن نخوض في أقوال الفقهاء في ذلك نقرر أن الصحابة أثرت عنهم صدقات الجهر ، كما كان معلوما عنهم أنهم يتصدقون ويخفون حتى لا تعلم شمالهم ما تنفق يمينهم .

                                                          ومما يروى في صدقاتهم التي كانت معروفة أن عمر رضي الله عنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصف ماله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ; " قال : خلفت لهم نصف مالي : وفي هذا الوقت جاء أبو بكر بكل ماله ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر ؟ " قال : عدة الله وعدة رسوله . فبكى عمر وقال : بأبي أنت وأمي يا أبا بكر ، والله ما استبقنا إلى خير قط إلا كنت سابقا ! .

                                                          وتبرعات عثمان كثيرة مشهورة معلمة بينة ، دونتها كتب التاريخ ، والسيرة المحمدية الشريفة .

                                                          وإذا كان المأثور عن الصحابة وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة العلن والسر ، ففي كل خير ، والآية صريحة في ذلك . ولكن بعض العلماء فضل صدقة السر ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث البخاري : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، [ ص: 1023 ] ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " .

                                                          وقال بعض العلماء : إن صدقة الفرض المقدر الأحب فيها الإعلان ; وصدقة الفرض المقدر هي الزكاة وصدقة الفطر . والصدقة غير المقدرة الأحب فيها الستر حتى لا يؤذي الفقير . ولقد أثر عن ابن عباس أنه كان يقول : ( جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا ) .

                                                          إنه بلا شك صدقة الفريضة المقدرة تكون علنا ، وهي معلنة بحكم أن الإمام يجمعها بعماله ، أو بمن ينوبهم عنه ; وأما صدقة التطوع فإنه بلا شك واضح أن سترها أولى للبعد عن الرياء ، ولعدم إيذاء الفقير ; ولكن قد يكون في إعلانها ما يتحقق به الأسوة ، ويكون كدعوة عامة للإنفاق في باب معين من أبواب غير المفروضة ، فيكون في الإعلان خير يفوق خير الستر ، ولكن بشرط البعد عن الرياء ; ولذلك كان السر في غير الفريضة المقدرة التي يجمعها ولي الأمر ، والأمر متروك لتقدير المنفق ، لأنه يتصل بقلبه أخلا من الرياء أم شابته شوائبه ؟ ولأنه يعرف حال الفقير الذي يعطيه ، أويؤذيه الإعلان أم لا يؤذيه ; ولأنه هو الأدرى بفائدة الإعلان وفائدة الستر في أمر صدقته .

                                                          هذا هو الحكم العام في الصدقات في ماضيها عندما كان الناس يقومون بمراقبة نفوسهم ، وإنه بالنسبة لزماننا وقد ساد النفاق ، وسيطر الرياء ، وعطلت الفرائض نرى أن - الستر أولى حتى تهذب النفوس ، وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الصدقة أفضل ; فقال - صلى الله عليه وسلم - : " سر إلى فقير أو جهد من مقل " .

                                                          [ ص: 1024 ] والله بما تعملون خبير ختم سبحانه الآية الكريمة بذلك الختام السامي ; والمعنى فيه أن الله ذا الجلال والإكرام المعبود بحق ، الذي انفرد بالألوهية خبير ، أي عليم علما دقيقا صادقا بما تعملون أيها المؤمنون .

                                                          فهذه الجملة السامية تشعر المؤمن برقابة الله تعالى على أعماله ، وعلى بواعث هذه الأعمال وعلى القلوب التي تنبعث منها النيات والمقاصد ، عليم سبحانه بكل ذلك ; فإذا أحس العبد برقابة الله القوي القادر بهذا العلم السامي نقى قلبه من كل شوائب الرياء في صدقاته كلها ، جهرها وسرها ، خافيها وظاهرها . ثم هذه الجملة كما تربي في نفس المؤمن المهابة من الله ، والشعور بمراقبته تتضمن وعدا ووعيدا ; لأنه إذا كان الله سبحانه وتعالى عليما علما دقيقا بكل ما يعمل العبد من خير وشر ، فإنه يكافئ العبد بما ينتج فعله ، إن خيرا فالثواب والنعيم المقيم ، وإن شرا فالعذاب الأليم .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية