الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 138 ] الباب العاشر

                                                                                                                                                                                                                                            في البحث المتعلق بقولنا الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن الأشياء على أربعة أقسام : الذي يكون نافعا وضروريا معا ، والذي يكون نافعا ولا يكون ضروريا ، والذي يكون ضروريا ولا يكون نافعا ، والذي لا يكون نافعا ولا يكون ضروريا .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القسم الأول - وهو الذي يكون نافعا وضروريا معا - فإما أن يكون كذلك في الدنيا فقط ، وهو مثل النفس ، فإنه لو انقطع منك لحظة واحدة حصل الموت ، وإما أن يكون كذلك في الآخرة ، وهو معرفة الله تعالى ، فإنها إن زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب ، واستوجب عذاب الأبد .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني - وهو الذي يكون نافعا ولا يكون ضروريا - فهو كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثالث - وهو الذي يكون ضروريا ولا يكون نافعا - فكالمضار التي لا بد منها في الدنيا : كالأمراض ، والموت ، والفقر ، والهرم ، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة ، فإن منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضار .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الرابع - وهو الذي لا يكون نافعا ولا ضروريا - فهو كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : قد ذكرنا أن النفس في الدنيا نافع وضروري ، فلو انقطع عن الإنسان لحظة لمات في الحال ، وكذلك معرفة الله تعالى أمر لا بد منه في الآخرة ، فلو زالت عن القلب لحظة لمات القلب لا محالة ، لكن الموت الأول أسهل من الثاني ؛ لأنه لا يتألم في الموت الأول إلا ساعة واحدة ، وأما الموت الثاني فإنه يبقى ألمه أبد الآباد ، وكما أن التنفس له أثران : أحدهما : إدخال النسيم الطيب على القلب وإبقاء اعتداله وسلامته ، والثاني : إخراج الهواء الفاسد الحار المحترق عن القلب ، كذلك الفكر له أثران : أحدهما : إيصال نسيم الحجة والبرهان إلى القلب ، وإبقاء اعتدال الإيمان والمعرفة عليه ، والثاني : إخراج الهواء الفاسد المتولد من الشبهات عن القلب ، وما ذاك إلا بأن يعرف أن هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها ، منتهية بالآخرة إلى الفناء بعد وجودها ، فمن وقف على هذه الأحوال بقي آمنا من الآفات ، واصلا إلى الخيرات والمسرات ، وكمال هذين الأمرين ينكشف لعقلك بأن تعرف أن كل ما وجدته ووصلت إليه فهو قطرة من بحار رحمة الله ، وذرة من أنوار إحسانه ، فعند هذا ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحمانا رحيما .

                                                                                                                                                                                                                                            فإذا أردت أن تعرف هذا المعنى على التفصيل ، فاعلم أنك جوهر مركب من نفس ، وبدن وروح ، وجسد .

                                                                                                                                                                                                                                            أما نفسك فلا شك أنها كانت جاهلة في مبدأ الفطرة كما قال تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) [ النحل : 78 ] ثم تأمل في مراتب القوى الحساسة والمحركة والمدركة والعاقلة ، وتأمل في مراتب المعقولات وفي جهاتها ، واعلم أنه لا نهاية لها البتة ، ولو أن العاقل أخذ في اكتساب العلم بالمعقولات ، وسرى فيها سريان البرق الخاطف والريح [ ص: 139 ] العاصف ، وبقي في ذلك السير أبد الآبدين ودهر الداهرين ، لكان الحاصل له من المعارف والعلوم قدرا متناهيا ، ولكانت المعلومات التي ما عرفها ولم يصل إليها أيضا غير متناهية ، والمتناهي في جنب غير المتناهي قليل في كثير ، فعند هذا يظهر له أن الذي قاله الله تعالى في قوله : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [ الإسراء : 85 ] حق وصدق .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما بدنك فاعلم أنه جوهر مركب من الأخلاط الأربعة ، فتأمل كيفية تركيبها وتشريحها ، وتعرف ما في كل واحد من الأعضاء والأجزاء من المنافع العالية والآثار الشريفة ، وحينئذ يظهر لك صدق قوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وحينئذ ينجلي لك أثر من آثار كمال رحمته في خلقك وهدايتك ، فتفهم شيئا قليلا من معنى قوله " الرحمن الرحيم " .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فهل لغير الله رحمة أم لا ؟ قلنا : الحق أن الرحمة ليست إلا لله ، ثم بتقدير أن تكون لغير الله رحمة إلا أن رحمة الله أكمل من رحمة غيره ، وهاهنا مقامان : المقام الأول : في بيان أنه لا رحمة إلا لله ، فنقول : الذي يدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الجود هو إفادة ما ينبغي لا لعوض ، فكل أحد غير الله فهو إنما يعطي ليأخذ عوضا ، إلا أن الأعواض أقسام : منها جسمانية مثل أن يعطي دينارا ليأخذ كرباسا ، ومنها روحانية وهي أقسام : فأحدها أنه يعطي المال لطلب الخدمة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها يعطي المال لطلب الإعانة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها يعطي المال لطلب الثناء الجميل .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها يعطي المال لطلب الثواب الجزيل .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها يعطي المال ليزيل حب المال عن القلب .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها يعطي المال لدفع الرقة الجنسية عن قلبه .

                                                                                                                                                                                                                                            وكل هذه الأقسام أعواض روحانية ، وبالجملة فكل من أعطى فإنما يعطي ليفوز بواسطة ذلك العطاء بنوع من أنواع الكمال ، فيكون ذلك في الحقيقة معاوضة ، ولا يكون جودا ، ولا هبة ، ولا عطية ، أما الحق سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته ، فيستحيل أن يعطي ليستفيد به كمالا ، فكان الجواد المطلق والراحم المطلق هو الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : أن كل من سوى الله فهو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد واجب الوجود لذاته ، فكل رحمة تصدر من غير الله فهي إنما دخلت في الوجود بإيجاد الله ، فيكون الرحيم في الحقيقة هو الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أن الإنسان يمكنه الفعل والترك ، فيمتنع رجحان الفعل على الترك إلا عند حصول داعية جازمة في القلب ، فعند عدم حصول تلك الداعية يمتنع صدور تلك الرحمة منه ، وعند حصولها يجب صدور الرحمة منه ، فيكون الراحم في الحقيقة هو الذي خلق تلك الداعية في ذلك القلب ، وما ذاك إلا الله تعالى ، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : هب أن فلانا يعطي الحنطة ، ولكن ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة ، وهب أنه وهب البستان فما لم تحصل القوة الباصرة في العين لم يحصل الانتفاع بذلك البستان ، بل الحق أن خالق تلك الحنطة وذلك البستان هو الله تعالى ، والممكن من الانتفاع بهما هو الله ، والحافظ له عن أنواع الآفات والمخافات حتى يحصل الانتفاع بتلك الأشياء هو الله تعالى ، فوجب أن يقال : المنعم والراحم في الحقيقة هو الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            المقام الثاني : في بيان أن بتقدير أن تحصل الرحمة من غير الله إلا أن رحمة الله أكمل وأعظم . وبيانه من [ ص: 140 ] وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الإنعام يوجب علو حال المنعم ودناءة حال المنعم عليه بالنسبة إلى المنعم ، فإذا حصل التواضع بالنسبة إلى حضرة الله فذاك خير من حصول هذه الحالة بالنسبة إلى بعض الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الله تعالى إذا أنعم عليك بنعمة طلب عندها منك عملا تتوصل به إلى استحقاق نعم الآخرة ، فكأنه تعالى يأمرك بأن تكتسب لنفسك سعادة الأبد ، وأما غير الله فإنه إذا أنعم عليك بنعمة أمرك بالاشتغال بخدمته والانصراف إلى تحصيل مقصوده ، ولا شك أن الحالة الأولى أفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن المنعم عليه يصير كالعبد للمنعم ، وعبودية الله أولى من عبودية غير الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن السلطان إذا أنعم عليك فهو غير عالم بتفاصيل أحوالك ، فقد ينعم عليك حال ما تكون غنيا عن إنعامه ، وقد يقطع عنك إنعامه حال ما تكون محتاجا إلى إنعامه ، وأيضا فهو غير قادر على الإنعام عليك في كل الأوقات وبجميع المرادات ، أما الحق تعالى فإنه عالم بجميع المعلومات ، قادر على كل الممكنات ، فإذا ظهرت بك حاجة عرفها ، وإن طلبت منه شيئا قدر على تحصيله ، فكان ذلك أفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : الإنعام يوجب المنة ، وقبول المنة من الحق أفضل من قبولها من الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                            فثبت بما ذكرنا أن الرحمن الرحيم هو الله تعالى ، وبتقدير أن يحصل رحمن آخر فرحمة الله تعالى أكمل وأفضل وأعلى وأجل ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية