الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب التصرف في مال اليتيم

قال الله (تعالى): ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ؛ قال أبو بكر : اليتيم: المنفرد عن أحد أبويه؛ فقد يكون يتيما من الأم؛ مع بقاء الأب؛ وقد يكون يتيما من الأب مع بقاء الأم؛ إلا أن الأظهر عند الإطلاق هو اليتيم من الأب؛ وإن كانت الأم باقية؛ ولا يكاد يوجد الإطلاق في اليتيم من الأم إذا كان الأب باقيا؛ وكذلك سائر ما ذكر الله من أحكام الأيتام؛ إنما المراد بها الفاقدون لآبائهم وهم صغار؛ ولا يطلق ذلك عليهم بعد البلوغ إلا على وجه المجاز؛ لقرب عهدهم باليتم؛ والدليل على أن اليتيم اسم للمنفرد تسميتهم للمرأة المنفردة عن الزوج "يتيمة" سواء كانت كبيرة أو صغيرة؛ قال الشاعر:


إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى



وتسمى الرابية يتيمة؛ لانفرادها عما حواليها؛ قال الشاعر - يصف ناقته -:


قوداء تملك رحلها ...     مثل اليتيم من الأرانب



يعني الرابية؛ ويقال: "درة يتيمة"؛ لأنها مفردة لا نظير لها؛ وكتاب لابن المقفع في مدح أبي العباس السفاح؛ واختلاف مذاهب الخوارج؛ وغيرهم؛ يسمى "اليتيمة"؛ قال أبو تمام :


وكثير عزة يوم بين ينسب ...     وابن المقفع في اليتيمة يسهب



وإذا كان اليتيم اسما للانفراد؛ كان شاملا لمن فقد أحد أبويه؛ صغيرا أو كبيرا؛ إلا أن الإطلاق إنما يتناول ما ذكرنا من فقد الأب في حال الصغر؛ حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح؛ عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة ؛ عن ابن عباس ؛ في قوله - عز وجل -: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ؛ قال: إن الله (تعالى) لما أنزل: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ؛ كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم؛ وتحرجوا أن يخالطوهم؛ وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه؛ فأنزل الله ويسألونك عن اليتامى ؛ إلى قوله: ولو شاء الله لأعنتكم ؛ قال: لو شاء الله لأحرجكم وضيق عليكم؛ ولكنه وسع؛ ويسر؛ فقال: ومن [ ص: 13 ] كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ابتغوا بأموال اليتامى؛ لا تأكلها الصدقة"؛ ويروى ذلك موقوفا على عمر ؛ وعن عمر ؛ وعائشة ؛ وابن عمر ؛ وشريح ؛ وجماعة من التابعين: "دفع مال اليتيم مضاربة؛ والتجارة به".

وقد حوت هذه الآية ضروبا من الأحكام؛ أحدها قوله: قل إصلاح لهم خير ؛ فيه الدلالة على جواز خلط ماله بماله؛ وجواز التصرف فيه بالبيع؛ والشراء؛ إذا كان ذلك صلاحا؛ وجواز دفعه مضاربة إلى غيره؛ وجواز أن يعمل ولي اليتيم مضاربة أيضا؛ وفيه الدلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث ; لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من طريق الاجتهاد؛ وغالب الظن؛ ويدل على أن لولي اليتيم أن يشتري من ماله لنفسه إذا كان خيرا لليتيم؛ وذلك بأن ما يأخذه اليتيم أكثر قيمة مما يخرج عن ملكه؛ وهو قول أبي حنيفة ؛ ويبيع أيضا من مال نفسه لليتيم ; لأن ذلك من الإصلاح له؛ ويدل أيضا على أن له تزويج اليتيم إذا كان ذلك من الإصلاح؛ وذلك عندنا فيمن كان ذا نسب منه؛ دون الوصي الذي لا نسب بينه وبينه؛ لأن الوصية نفسها لا يستحق بها الولاية في التزويج؛ ولكنه قد اقتضى ظاهره أن للقاضي أن يزوجه؛ ويتصرف في ماله على وجه الإصلاح ؛ ويدل على أن له أن يعلمه ما له فيه صلاح من أمر الدين؛ والأدب؛ ويستأجر له على ذلك؛ وأن يؤاجره ممن يعلمه الصناعات؛ والتجارات ؛ ونحوها; لأن جميع ذلك قد يقع على وجه الإصلاح؛ ولذلك قال أصحابنا: إن كل من كان اليتيم في حجره؛ من ذوي الرحم المحرم ؛ فله أن يؤاجره ليعلم الصناعات؛ وقال محمد: "له أن ينفق عليه من ماله"؛ وقالوا: إنه إذا وهب لليتيم مال فلمن هو في حجره أن يقبضه له؛ لما له فيه من الإصلاح؛ فظاهر الآية قد اقتضى جميع ذلك كله.

وقوله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ؛ إنما عنى بالمضمرين في قوله: "ويسألونك"؛ القوام على الأيتام الكافلين لهم؛ وذلك ينتظم كل ذي رحم محرم; لأن له إمساك اليتيم؛ وحفظه؛ وحياطته؛ وحضانته؛ وقد انتظم قوله: قل إصلاح لهم خير ؛ سائر الوجوه التي ذكرنا من التصرف في ماله؛ على وجه الإصلاح؛ والتزويج؛ والتقويم؛ والتأديب .

وقوله: "خير" قد دل على معان؛ منها إباحة التصرف على اليتامى من الوجوه التي ذكرنا؛ ومنها أن ذلك مما يستحق به الثواب; لأنه سماه خيرا؛ وما كان خيرا فإنه يستحق به الثواب؛ ومنها أنه لم يوجبه؛ وإنما وعد به الثواب؛ فدل على أنه ليس بواجب عليه التصرف في ماله بالتجارة؛ ولا هو مجبر على تزويجه؛ [ ص: 14 ] لأن ظاهر اللفظ يدل على أن مراده الندب والإرشاد؛ وقوله: وإن تخالطوهم فإخوانكم ؛ فيه إباحة خلط ماله بماله؛ والتجارة؛ والتصرف فيه؛ ويدل على أنه له أن يخالط اليتيم بنفسه في الصهر؛ والمناكحة؛ وأن يزوجه بنته؛ أو يزوج اليتيمة بعض ولده؛ فيكون قد خلط اليتامى بنفسه؛ وعياله؛ واختلط هو بهم؛ فقد انتظم قوله: وإن تخالطوهم ؛ إباحة خلط ماله بماله؛ والتصرف فيه؛ وجواز تزويجه بعض ولده ؛ ومن يلي عليه؛ فيكون قد خلطه بنفسه؛ والدليل على أن اسم المخالطة يتناول جميع ذلك قولهم: "فلان خليط فلان"؛ إذا كان شريكا؛ وإذا كان يعامله؛ ويبايعه؛ ويشاريه؛ ويداينه؛ وإن لم يكن شريكا؛ وكذلك يقال: "قد اختلط فلان بفلان"؛ إذا صاهره؛ وذلك كله مأخوذ من الخلطة؛ التي هي الاشتراك في الحقوق من غير تمييز بعضهم من بعض فيها؛ وهذده المخالطة معقودة بشريطة الإصلاح من وجهين؛ أحدهما: تقديمه ذكر الإصلاح فيما أجاب به من أمر اليتامى؛ والثاني: قوله - عقيب ذكر المخالطة: والله يعلم المفسد من المصلح .

وإذا كانت الآية قد انتظمت جواز خلطه مال اليتيم بماله؛ في مقدار ما يغلب في ظنه أن اليتيم يأكله؛ على ما روي عن ابن عباس ؛ فقد دل على جواز المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار؛ فيخرج كل واحد منهم شيئا معلوما؛ فيخلطونه؛ ثم ينفقونه؛ وقد يختلف أكل الناس؛ فإذا كان الله (تعالى) قد أباح في أموال الأيتام؛ فهو في مال العقلاء البالغين بطيبة أنفسهم أجوز؛ ونظيره في تجويزه المناهدة قوله ( تعالى) - في قصة أهل الكهف -: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما ؛ فكان الورق لهم جميعا؛ لقوله: بورقكم ؛ فأضافه إلى الجماعة؛ وأمره بالشراء ليأكلوا جميعا منه.

وقوله: وإن تخالطوهم فإخوانكم ؛ قد دل على ما ذكرنا من جواز المشاركة والخلطة؛ على أنه يستحق الثواب بما يتحرى فيه الإصلاح من ذلك؛ لأن قوله: فإخوانكم ؛ قد دل على ذلك؛ إذ هو مندوب إلى معونة أخيه؛ وتحري مصالحه؛ لقوله (تعالى): إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه . فقد انتظم قوله: فإخوانكم ؛ الدلالة على الندب؛ والإرشاد؛ واستحقاق الثواب بما يليه منه.

وقوله: ولو شاء الله لأعنتكم ؛ يعني به: لضيق عليكم في التكليف؛ فيمنعكم من مخالطة الأيتام؛ والتصرف لهم في أموالهم؛ ولأمركم بإفراد أموالكم عن أموالهم؛ أو لأمركم على جهة الإيجاب بالتصرف لهم؛ وطلب الأرباح بالتجارات لهم؛ ولكنه وسع؛ ويسر؛ وأباح لكم التصرف لهم على وجه الإصلاح؛ ووعدكم [ ص: 15 ] الثواب عليه؛ ولم يلزمكم ذلك على جهة الإيجاب فيضيق عليكم؛ تذكيرا بنعمه؛ وإعلاما منه اليسر؛ والصلاح لعباده.

وقوله: فإخوانكم ؛ يدل على أن أطفال المؤمنين هم مؤمنون في الأحكام؛ لأن الله (تعالى) سماهم إخوانا لنا؛ والله (تعالى) قد قال: إنما المؤمنون إخوة ؛ والله (تعالى) أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية