الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              القسم الثالث : في الأمر ، والنهي فنبدأ بالأمر ، فنقول : أولا في حده ، وحقيقته ، وثانيا في صيغته ، وثالثا في مقتضاه من الفور ، والتراخي أو الوجوب أو الندب ، وفي التكرار ، والاتحاد ، وإثباته .

              النظر الأول : في حده ، وحقيقته .

              ، وهو قسم من أقسام الكلام ، إذ بينا أن الكلام ينقسم إلى أمر ، ونهي ، وخبر ، واستخبار ، فالأمر أحد أقسامه ، وحد الأمر أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به ، والنهي هو القول المقتضي ترك الفعل ، وقيل في حد الأمر : إنه طلب الفعل ، واقتضاؤه على غير ، وجه المسألة ، وممن دون الآمر في الدرجة احترازا عن قوله : اللهم اغفر لي ، وعن سؤال العبد من سيده ، والولد من والده ولا حاجة إلى هذا الاحتراز ، بل يتصور من العبد ، والولد أمر السيد ، والوالد ، وإن لم تجب عليهما الطاعة ، فليس من ضرورة كل أمر أن يكون واجب الطاعة بل الطاعة لا تجب إلا لله تعالى ، والعرب قد تقول : فلان أمر أباه ، والعبد أمر سيده ، ومن يعلم أن طلب الطاعة لا يحسن منه فيرون ذلك أمرا ، وإن لم يستحسنوه .

              وكذلك قوله : اغفر لي فلا يستحيل أن يقوم بذاته اقتضاء الطاعة من الله تعالى أو من غيره فيكون آمرا ، ويكون عاصيا بأمره . فإن قيل : قولكم الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور أردتم به القول باللسان أو كلام النفس ؟ قلنا : الناس فريقان :

              الفريق الأول : هم المثبتون لكلام النفس ، وهؤلاء يريدون بالقول ما يقوم بالنفس من اقتضاء الطاعة ، وهو الذي يكون النطق عبارة عنه ، ودليلا عليه ، وهو قائم بالنفس ، وهو أمر بذاته ، وجنسه ، ويتعلق بالمأمور به ، وهو كالقدرة فإنها قدرة لذاتها ، وتتعلق بمتعلقها ، ولا يختلف في الشاهد ، والغائب في نوعه ، وحده ، وينقسم إلى قديم ، ومحدث كالقدرة ، ويدل عليه تارة بالإشارة ، والرمز ، والفعل ، وتارة بالألفاظ ، فإن سميت الإشارة المعرفة أمرا فمجاز لأنه دليل على الأمر لا أنه نفس الأمر .

              وأما الألفاظ فمثل قوله : أمرتك ، فاقتضى طاعته ، وهو ينقسم إلى إيجاب ، وندب ، ويدل على معنى الندب بقوله : ندبتك ، ورغبتك فافعل فإنه خير لك ، وعلى معنى الوجوب بقوله : أوجبت عليك أو فرضت أو حتمت فافعل فإن تركت فأنت معاقب ، وما يجري مجراه ، وهذه الألفاظ الدالة على معنى الأمر تسمى أمرا ، وكأن الاسم مشترك بين المعنى القائم بالنفس ، وبين اللفظ الدال فيكون حقيقة فيهما أو يكون حقيقة في المعنى القائم بالنفس ، وقوله : افعل ، يسمى أمرا مجازا كما تسمى الإشارة المعرفة أمرا مجازا ، ومثل هذا الخلاف جاز في اسم الكلام أنه مشترك بين ما في النفس ، وبين اللفظ أو هو مجاز في اللفظ .

              الفريق الثاني : هم المنكرون [ ص: 203 ] لكلام النفس ، وهؤلاء انقسموا إلى ثلاثة أصناف ، وتحزبوا على ثلاث مراتب :

              الحزب الأول : قالوا : لا معنى للأمر إلا حرف ، وصوت ، وهو مثل قوله : افعل ، أو ما يفيد معناه .

              وإليه ذهب البلخي من المعتزلة ، وزعم أن قوله " افعل " أمر لذاته ، وجنسه ، وأنه لا يتصور أن لا يكون أمرا فقيل له : هذه الصيغة قد تصدر للتهديد ، كقوله : { اعملوا ما شئتم } ، وقد تصدر للإباحة كقوله : { وإذا حللتم فاصطادوا } فقال : ذلك جنس آخر لا من هذا الجنس ، وهو مناكرة للحس . فلما استشعر ضعف هذه المجاحدة اعترف .

              الحزب الثاني : وفيهم جماعة من الفقهاء يقولون : إن قوله : " افعل " ليس أمرا بمجرد صيغته ولذاته بل لصيغته ، وتجرده عن القرائن الصارفة له عن جهة الأمر إلى التهديد ، والإباحة ، وغيره ، وزعموا أنه لو صدر من النائم ، والمجنون أيضا لم يكن أمرا للقرينة ، وهذا يعارضه قول من قال : إنه لغير الأمر إلا إذا صرفته قرينة إلى معنى الأمر لأنه إذا سلم إطلاق العرب هذه الصيغة على أوجه مختلفة فحوالة البعض على الصيغة ، وحوالة الباقي على القرينة تحكم مجرد لا يعلم بضرورة العقل ، ولا بنظر ، ولا بنقل متواتر من أهل اللغة فيجب التوقف فيه ، فعند ذلك اعترف .

              الحزب الثالث : من محققي المعتزلة أنه ليس أمرا لصيغته ، وذاته ، ولا لكونه مجردا عن القرائن مع الصيغة ، بل يصير أمرا بثلاث إرادات إرادة المأمور به ، وإرادة إحداث الصيغة ، وإرادة الدلالة بالصيغة على الأمر دون الإباحة ، والتهديد ، وقال بعضهم : تكفي إرادة واحدة ، وهي إرادة المأمور به ، وهذا فاسد من أوجه :

              الأول : أنه يلزم أن يكون قوله تعالى : { ادخلوها بسلام آمنين } ، وقوله : { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } أمرا لأهل الجنة ، ولا يمكن تحقيق الأمر إلا بوعد ، ووعيد فتكون الدار الآخرة دار تكليف ، ومحنة ، وهو خلاف الإجماع ، وقد ركب ابن الجبائي هذا ، وقال : إن الله مريد دخولهم الجنة ، وكاره امتناعهم إذ يتعذر به إيصال الثواب إليهم ، وهذا ظلم ، والله سبحانه يكره الظلم . فإن قيل : قد وجدت إرادة الصيغة ، وإرادة المأمور به لكن لم توجد إرادة الدلالة به على الأمر .

              قلنا : وهل للأمر معنى وراء الصيغة حتى تراد الدلالة عليه أم لا ؟ فإن كان له معنى فما هو ، وهل له حقيقة سوى ما يقوم بالنفس من اقتضاء الطاعة ؟ وإن لم يكن سوى الصيغة فلا معنى لاعتبار هذه الإرادة الثالثة :

              الوجه الثاني : أنه يلزمهم أن يكون القائل لنفسه افعل مع إرادة الفعل من نفسه آمرا لنفسه ، وهو محال بالاتفاق فإن الآمر هو المقتضي ، وأمره لنفسه لا يكون مقتضيا للفعل بل المقتضي دواعيه ، وأغراضه ولهذا لو قال لنفسه " افعل " ، وسكت وجد ههنا إرادة الصيغة ، وإرادة المأمور به ، وليس بأمر ، فدل أن حقيقته اقتضاء الطاعة ، وهو معنى قائم بالنفس من ضرورته أن يتعلق بغيره ، وهل يشترط أن لا يكون ذلك الغير فوقه في الرتبة ؟ فيه كلام سبق . فإن قيل ، وما الدليل على قيام معنى بالنفس سوى إرادة الفعل المأمور به ، فإن السيد لا يجد من نفسه عند قوله لعبده اسقني أو أسرج الدابة إلا إرادة السقي [ ص: 204 ] والإسراج ، أعني : طلبه ، والميل إليه لارتباط غرضه به ، فإن ثبت أن الأمر يرجع إلى هذه الإرادة لزم اقتران الأمر ، والإرادة في حق الله تعالى حتى لا تكون المعاصي الواقعة إلا مأمورا بها مرادة ، إذ الكائنات كلها مرادة . أو ينكر وقوعها بإرادة الله فيقال : إنها على خلاف إرادته ، وهو شنيع إذ يؤدي إلى أن يكون ما يجري في ملكه على خلاف ما أراد أكثر مما يجري على وفق إرادته ، وهي الطاعات ، وذلك أيضا منكر ، فما المخلص من هذه الورطة ؟ قلنا : هذه الضرورة التي دعت الأصحاب إلى تمييز الأمر عن الإرادة فقالوا : قد يأمر السيد عبده بما لا يريده ، كالمعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا مهد عنده عذره لمخالفة أوامره فقال له بين يدي الملك : أسرج الدابة ، وهو يريد أن لا يسرج إذ في إسراجه خطر ، وإهلاك للسيد ، فيعلم أنه لا يريده ، وهو أمر إذ لولاه لما كان العبد مخالفا ، ولما تمهد عذره عند السلطان ، وكيف لا يكون أمرا ، وقد فهم العبد ، والسلطان ، والحاضرون منه الأمر ؟ فدل أنه قد يأمر بما لا يريده هذا منتهى كلامهم ، وتحته غور لو كشفناه لم تحتمل الأصول التقصي عن عهدة ما يلزم منه ، ولتزلزلت به قواعد لا يمكن تداركها إلا بتفهيمها على وجه يخالف ما سبق إلى أوهام أكثر المتكلمين ، والقول فيه يطول ، ويخرج عن خصوص مقصود الأصول .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية