الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              573 - عمرو بن عثمان المكي

              ومنهم العارف البصير ، والعالم الخبير ، له اللسان الشافي ، والبيان الكافي ، معدود في الأولياء ، محمود في الأطباء ، أحكم الأصول ، وأخلص في الوصول - أبو عبد الله عمر بن عثمان المكي .

              ساح في البلاد ، وباح بالوداد ، وصحب الأصفياء من العباد .

              سمعت أبا محمد بن عبد الله بن محمد بن جعفر ، يقول : سمعت أبا عبد الله عمرو بن عثمان المكي ، وأملى علي في جواب مسألة سئل عنها ، يخاطب السائل : " أقم على نفسك الموازنة بعقلك في تفقد حالك ومقامك هذا ، إن كل ما عارضك من الأشغال من كل شيء ، أعني من حق أو باطل أزالك عن مقامك هذا بانصراف اليسير من عقلك فذلك كله عذر فاهرب وافزع إلى الله عند اعتراض الخواطر وسورة العوارض وحيرة الهوى إلى مولاك وسيدك ، ومن بين يديه ضرك ونفعك الذي خلصت في نفسك وحدانيته وقدرته وتفريد سلطانه وتفريد فعل ربوبيته إذ لا قابض ولا باسط ولا نافع ولا ضار ولا معين ولا ناصر ولا عاصم ولا عاضد إلا الله وحده لا شريك له في سمائه وأرضه ، وهذا أول مقام قامه أهل الإيمان من تصحيح القدرة في إخلاص تفريد أفعال الربوبية ، وهو أول مقام قامه المؤمنون ، وأول مقام قامه المخلصون ، وأول مقام قامه المتوكلون في تصحيح العلم المعقود بشرط التوكل في الأعمال قبل الأعمال ، واعلم رحمك الله أن كل ما توهمه قلبك أو رسخ في مجاري فكرتك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء ، أو إشراف أو ضياء أو جمال ، أو شبح ماثل ، أو شخص متمثل ، فالله بخلاف ذلك كله بل هو تعالى أعظم وأجل وأكمل ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) ؟ ، وقوله عز وجل : ( ولم يكن له كفوا أحد ) ، أي لا شبه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل ، وقف عند خبره عن نفسه مسلما مستسلما [ ص: 292 ] مذعنا مصدقا بلا مباحثة التنفير ولا مفاتشة التفكير جل الله وعلا الذي ليس له نظير ولا يبلغ كنه معرفته خالص التفكير ، ولا تحويه صفة التقدير ، السماوات مطويات بيمينه والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الظاهر على كل شيء سلطانا وقدرة ، والباطن لكل شيء علما وخبرة ، خلق الأشياء على غير مثال ، ولا عبرة ولا تردد ولا فكرة ، تعالى وتقدس أن يكون في الأرض ولا في السماء ، وجل عن ذلك علوا كبيرا ، أقام لقلوب الموقنين مدى يمسكه التسليم عن التيه في بحور الغيوب المضروبة دون ذي الجلال والكبرياء ، فشكر لهم تسليمهم واعترافهم بالجهل بما لا علم لهم به ، وسمى ذلك منهم رسوخا وربانية أو إيمانا لقوله تعالى : ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) ، وما خبر عن ملائكته إذ قالوا : ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) ، عجزت الملائكة المقربون أن تحد أحسن الخالقين أو تكيف صفة رب العالمين فهم خشوع خضوع خنوع في حجرات سرادقات العرش محبوسون أن يتأملوا ساطع النور الأوهج فهم يضجون حول عرشه بالتقديس ضجيجا ويعجون بالتسبيح عجيجا باهتون راهبون خائفون مشفقون وجلون لما بدا لهم من عظيم القدرة ، ولما أيقنوا به وسلموا له من شموخ الرفعة ، فكيف تطمع يا أخي نفسك أو تطلق فكرك في شيء من الاحتواء على صفة من هذا وصفه ؟ وقانا الله تعالى وإياك اعتراض الشكوك ، وعصمنا وإياك في كنف تأييده من التخطي بالأفهام إلى اكتناه من لا تهجم عليه الظنون ، ولا تلحقه في العاجلة العيون ، جل وتعالى عن خطرات الهفوات ، وعن ظنون الشبهات علوا كبيرا ، فبهذا فاعرف ربك ومولاك ، ومن لا تأخذه سنة ولا نوم ، فيكون سلاحك وعظم عدتك ومجاهدتك وجنتك من عدوك عند من يلقى إليك في خالقك ، فهذا الذي وصفت لك فإليه فالتجئ وبه فاستمسك ، ثم عد إليه بملق اللوذان واستكانة الخضوع أن يعصمك الله ويثبتك فهو المثبت لقلوب أوليائه بصحة اليقين من الزوال كما أمسك أرضه بالجبال من الزلزال ، والسلام " .

              سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد ، يقول : سمعت عمرو بن عثمان ، يقول : [ ص: 293 ] إن الله جعل الاختبار موصولا بالاختيار ، والإجابة مؤداة إلى الأبرار بتوفيق هدايته وابتداء رأفته ، وجعل رحمته مفتاحا لكل خير في أرضه وسمائه ، فكان مما اختار لنفسه عبادا اتخذهم لنفسه ورضيهم لعبادته واصطنعهم لخدمته واجتباهم لمحبته ونصبهم لدعوته وأبرزهم لإجابته واستعملهم بمرضاته ، فألطف لهم في الدعوة باختصاص المنة ، فأظهر دعوته في قلوبهم بإظهار صنعه وصنعائه ، وما غذاهم به من لطفه وألطافه ، وبره ونعمائه ، فوطأ لهم الطريق ، وكشف عن قلوبهم فسارعت قلوبهم بإجابة التحقيق ، وذلك لما عرفوا واستبانوا مما به الله دانوا مما تعرف به إليهم من البر والتحف ، والكرامات والطرف ، والفوائد السنية ، والمواهب الهنية ، فسارعت لإجابته بخالص موافقته ، والإعراض عن مخالفته ، والعطف على كل ما عطف به عليها ، والإقبال على كل ما دعاها إليه بلا تثبط في مسير ولا التفات في جد ولا تشمير ، فوصلوا الغدو بالتبكير وقطعوا فيها العلائق ، وانفردوا به دون الخلائق ، فساروا سير متقدمين ، وجدوا جد معتزمين ، وحثوا حث مبادرين ، وداموا مداومة ملازمين ، وانتصبوا انتصاب خائفين للفوت والحرمان ، وخوف السلب لما تقدم إليهم من الإحسان ، فعبدوه بأبدان خفاف ، وعاملوه بفطن لطاف ، وقصدوه بإرادات صادقة ، وهمم خالصة ورغبات طامحة ، وقلوب صافية ، فابتدءوا من معاملة الله فيما به ابتدأهم حين دعاهم إذ يقول تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) فطلبوا طيب الحياة بإخلاص الإجابة ، وعملوا في الظفر بالحياة إذ دعاهم الله إليها ، ونبههم بلطفه عليها ، فجعلوا إقامتهم وإرادتهم وأملهم ومناهم الظفر بالحياة فعملوا في تحقيق موجباتها في الأحوال الواردة بهم عليها .

              سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد بن جعفر ، يقول : سمعت عمرو بن عثمان المكي ، يقول في وصف سياسة النفوس ، قال : " يبتدئ بعد الإجابة بتوفيق النفوس لما كان منها من مخالفة الملك ومعصيته الجبار ، فألزمها التوبة والتنصل والاعتذار وتكرير الاستغفار ، والاجتهاد في حل الإصرار باللجأ والاستئجار والاعتصام بمليكهم الجبار ، فوافقوها موافقة على موازنة ، وعاتبوها معاتبة على محاضرة [ ص: 294 ] ووبخوها بما فرط منها من الجهل والتضييع والشرور والتمادي والتمرد في ركوب المعاصي ، فوبخوها بين يديه وعاتبوها معاتبة من قد عرض عليه ، وقرروها تقرير مناقشة الحساب ، وجرعوها ما توعده الله من أليم العذاب ، وشديد العقاب ثم أقاموها مقام الخزي فأبدلوها بحال الرفاهات القشف والتقشف والضر والتخفف ، فأبدلوها بالشبع جوعا ، وبالنوم سهرا ، وبالراحة تعبا وبالقعود نصبا ، وبطيب المطاعم الخبيث الخشن ، وبلين الملابس الخشن الجافي ، وبأمن الوطن خوف البيات ، ثم أزعجوها عن توطن ما به ألزموها فمنعوها استواء الأوقات في بذل الاجتهاد ، وأخذوها بدائم الازدياد على سبيل الموازنة وأقاموها مقام التصفح والتفتيش والمحاسبة والتوقيف على كل لحظة وخطرة ، وهمة ولفظة ، وفكرة ، وأمنية ، وشهوة وإرادة ومحبة ، فهكذا أبدا دأبهم وفي هذه أبدا حالهم على هذه السياسة بشرط هذه المجاهدة وانتصاب هذه المكابدة وإحاطة هذه المراوضة ، ومع هذا فالهرب إلى الله فيها ، والاعتضاد بالله عليها والتأوي إلى الله منها والاستعاذة بالله من شرها ، والاستعانة بالله على كيدها ، والصراخ إلى الله عند شرودها ، واستغث بالملك الأعلى الذي هو صريخ الأخيار ومنجا الأبرار ، وملتجأ المتقين ، وناصر الصالحين ؛ لأن الله تعالى إذا شكر لوليه عظيم ما جاهد وجسيم ما كابد ، ومشقة ما احتمل وجهد ما انتصب تولاه بالنصرة والتأييد والعز والتأييد ، ومن نصره لم يخذل ومن أعزه لم يقهر ، ومن تولاه لم يذل ، فروحها روح اليقين ، وأضاء لها علامات التصديق من الله بالقبول ، وأنارت لها علامات التحقيق وتوالت عليها مداومة المزيد وعادت عليها تكرار التحف والبر والكرامات ، وعطفت عليها عواطف الفضل بالرحمة والبذل ؛ لأن الله تعالى المبتدئ عبده بما ابتدأ به العبد من بذل في قربة ، أو من اجتهاد في وسيلة ، أو من منافسة في فضيلة ، أو من مسارعة إلى خدمة ، أو من إخلاص في نية ، أو من تكامل في رغبة ، أو من تحقيق في محبة ، فالله المبتدئ لها بذلك بما به أقامها ، وبما به إليها دعاها ، فهذه كلها صفة الحياة ومشاربها وانبجاس أحوالها وتشعب مذاقاتها بكل ما وصفناه من غم وسرور [ ص: 295 ] وراحة وجهد ورفاهة وتعب وموافقة ونصب وبكاء وحزن وخوف وكمد فذلك كله من صفة الحياة التي دعا الله إليها ونبه قلوبهم عليها بقوله سبحانه وتعالى : ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) .

              سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد يقول : سمعت عمرو بن عثمان يقول : المخلصون من الورعين هم الذين تفقدوا قلوبهم بالأعمال والنيات في كل أحوالهم وأعمالهم وحركاتهم وسكونهم مواظبين للاستقامة المفترضة على طاعة الله ، وله محافظون ، ومن دخول الفساد عليهم مشفقون ، فأورثهم الله مراقبته ، فهنالك تنتصب قلوبهم بمداومة المحافظة لنظر الله إليهم ونظره إلى سرائرهم ، وعلمه بحركاتهم وسكونهم فهنالك تقف القلوب بعلم الله ، فلا تنبعث بخطرة ولا همة ولا إرادة ولا محبة ولا شهوة إلا حفظوا علم الله بهم في ذلك ، فلم تبرز حركات الضمير إلى تحريك الجوارح إلا بالتحصيل والتمييز لقوله تعالى : ( إن الله كان عليكم رقيبا ) ولقوله سبحانه : ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه ) فإذا انتصبت المراقبة بدوام انتصاب القلوب بها فهنالك يكون تمام الإخلاص والحيطة في العمل ، وهنالك يورثهم الله الحياء ، فدوام المراقبة يفشي الحياء ويمده ويزيد فيه ، والحياء يعمر القلوب بدوام الطهارة ويخرج من القلوب حلاوة الماء ، ثم حلاوة الشهوات ، ودوام الحياء يوجب على القلوب إعظام حرمات الله بإعظام مقام الله حياء من جلال الله ؛ لأن إجلال حرمات الله في القلوب غاسل للقلوب بماء الحياة الوارد عليها من فوائد الله ، فتخلق الدنيا في قلوبهم وتصغر الأشياء فيها ، وتقوى حركات اليقين بصفاء النظر إلى الموعود ، فيوصلها بالمعروف ويرجع عليها اليقين بالتوبيخ في إعظام الدنيا والسعي لها ولجمعها .

              سمعت أبا محمد ، يقول : سمعت عمرو بن عثمان ، يقول : اعلم أن حد الشكر في القلوب خارج من الاشتغال بالفرح على النعم والاشتغال ببهجتها بما يغلب على النفوس من شرهها عليها وعظيم حظها فيها فالشكر خارج من ذلك ، فإذا ما حل بالقلوب زهرات النعم ورونق صفوها ، وخفض العيش فيما هاج في القلوب [ ص: 296 ] ذكر المنعم بها والمتولي للامتنان بها فاتصل فرحهم بشكره ، وأوصلتهم النعمة إلى الابتهاج بالمنعم والذكر له والثناء عليه ، فهذا حد الشكر فيما ذاقته القلوب ، فلما صرفت الأفراح عن حظوظ النفوس إلى مواضع الشكر ابتهاجا بالمنعم دون حظ النفوس بالنعمة ، خلصت تلك الأفراح رضاء عن الله ، وبشاشة القلوب بمر القضاء ، واختلاف الأحكام بمخالفة المحاب ، والسرور بمر القضاء ويكون السرور مقرونا بالمحبة لله التي هي معقودة في عقود الإيمان وموجودة في أصل العرفان ؛ لأنه لا يصح إلا بثلاث حالات : إخلاص لتوحيده ، ورضا به أنه رب ، ومحبة له على كل شيء ، إذ هو إلهه ومالك ضره ونفعه ورفعه ووضعه وحياته وموته ، فولهت القلوب إليه بضر الفاقة ، فهذا معنى المحبة المفترضة في عقود الإيمان كفرض الإيمان " .

              قال الشيخ رضي الله تعالى عنه : كان عمرو بن عثمان - رحمه الله تعالى - حظوظه في فنون العلم غزيرة ، وتصانيفه بالمسانيد والروايات شهيرة .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا عمرو بن عثمان ، ثنا يونس بن عبد الأعلى ، ثنا ابن عيينة ، عن ابن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وكل على خير واحرص على ما ينفعك ولا تعجز فإن فاتك شيء فقل كذا قدر ، وكذا كان وإياك ولو ، فإنها مفتاح عمل الشيطان " غريب من حديث ابن عيينة ، عن ابن عجلان .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية