الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون

قوله تعالى : قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف أي قال له ولده : تالله تفتأ تذكر يوسف قال الكسائي : فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت . وزعم الفراء أن " لا " مضمرة ; أي لا تفتأ ، وأنشد :


فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي



أي لا أبرح ; قال النحاس : والذي قال حسن صحيح . وزعم الخليل وسيبويه أن " لا " تضمر في القسم ، لأنه ليس فيه إشكال ; ولو كان واجبا لكان باللام والنون ; وإنما قالوا له ذلك لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك ; يقال : ما زال يفعل كذا ، وما فتئ وفتأ فهما لغتان ، ولا يستعملان إلا مع الجحد قال الشاعر :


فما فتئت حتى كأن غبارها     سرادق يوم ذي رياح ترفع



أي ما برحت فتفتأ تبرح . وقال ابن عباس : تزال .

حتى تكون حرضا أي تالفا . وقال ابن عباس ومجاهد : دنفا من المرض ، وهو ما دون الموت ; قال الشاعر :


سرى همي فأمرضني     وقدما زادني مرضا
كذاك الحب قبل اليو     م مما يورث الحرضا



وقال قتادة : هرما . الضحاك : باليا داثرا . محمد بن إسحاق : فاسدا لا عقل لك . الفراء : الحارض الفاسد الجسم والعقل ; وكذا الحرض . ابن زيد : الحرض الذي قد رد إلى أرذل العمر . الربيع بن أنس : يابس الجلد على العظم . المؤرج : ذائبا من الهم . وقال الأخفش : ذاهبا . ابن الأنباري : هالكا ، وكلها متقاربة . وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم ، عن أبي عبيدة وغيره ; وقال العرجي :


إني امرؤ لج بي حب فأحرضني     حتى بليت وحتى شفني السقم



قال النحاس : يقال حرض حرضا وحرض حروضا وحروضة إذا بلي وسقم ، ورجل حارض وحرض ; إلا أن حرضا لا يثنى ولا يجمع ، ومثله قمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان . [ ص: 219 ] الثعلبي : ومن العرب من يقول حارض للمذكر ، والمؤنثة حارضة ; فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وأنث . ويقال : حرض يحرض حراضة فهو حريض وحرض . ويقال : رجل محرض ، وينشد :


طلبته الخيل يوما كاملا     ولو ألفته لأضحى محرضا



وقال امرؤ القيس :

أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا     كإحراض بكر في الديار مريض



قال النحاس : وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه ، ورجل حارض أي أحمق . وقرأ أنس : " حرضا " بضم الحاء وسكون الراء ، أي مثل عود الأشنان . وقرأ الحسن بضم الحاء والراء . قال الجوهري : الحرض والحرض الأشنان .

أو تكون من الهالكين أي الميتين ، وهو قول الجميع ; وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه ، وإن كانوا السبب في ذلك .

قوله تعالى : قال إنما أشكو بثي حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها ; وهو من بثثته أي فرقته ، فسميت المصيبة بثا مجازا ، قال ذو الرمة :


وقفت على ربع لمية ناقتي     فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه     تكلمني أحجاره وملاعبه



وقال ابن عباس : بثي همي . الحسن : حاجتي . وقيل : أشد الحزن ، وحقيقة ما ذكرناه .

وحزني إلى الله معطوف عليه ، أعاده بغير لفظه .

وأعلم من الله ما لا تعلمون أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، وأني سأسجد له . قاله ابن عباس . إني أعلم من إحسان الله تعالى إلي ما يوجب حسن ظني به . وقيل : قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف ؟ قال : لا ، فأكد هذا رجاءه . وقال السدي : أعلم أن يوسف حي ، وذلك أنه لما أخبره ولده بسيرة الملك وعدله وخلقه وقوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع ، وقال : لعله يوسف . وقال : لا يكون في الأرض صديق إلا نبئ . وقيل : أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية