الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين

قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى هذا رد على القائلين : لولا أنزل عليه ملك أي أرسلنا رجالا ليس فيهم امرأة ولا جني ولا ملك ; وهذا يرد ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن في النساء أربع نبيات حواء وآسية وأم موسى ومريم . وقد تقدم في " آل عمران " شيء من هذا . من أهل القرى يريد المدائن ; ولم [ ص: 240 ] يبعث الله نبيا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو ; ولأن أهل الأمصار أعقل وأحلم وأفضل وأعلم . قال الحسن : لم يبعث الله نبيا من أهل البادية قط ، ولا من النساء ، ولا من الجن . وقال قتادة : من أهل القرى أي من أهل الأمصار ; لأنهم أعلم وأحلم . وقال العلماء : من شرط الرسول أن يكون رجلا آدميا مدنيا ; وإنما قالوا آدميا تحرزا ; من قوله : يعوذون برجال من الجن والله أعلم .

قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم المكذبة لأنبيائهم فيعتبروا .

ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ابتداء وخبره . وزعم الفراء أن الدار هي الآخرة ; وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ ، كيوم الخميس ، وبارحة الأولى ; قال الشاعر :


ولو أقوت عليك ديار عبس عرفت الذل عرفان اليقين



أي عرفانا يقينا ; واحتج الكسائي بقولهم : صلاة الأولى ; واحتج الأخفش بمسجد الجامع . قال النحاس : إضافة الشيء إلى نفسه محال ; لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليتعرف به ; والأجود الصلاة الأولى ، ومن قال صلاة الأولى فمعناه : عند صلاة الفريضة الأولى ; وإنما سميت الأولى لأنها أول ما صلي حين فرضت الصلاة ، وأول ما أظهر ; فلذلك قيل لها أيضا الظهر . والتقدير : ولدار الحال الآخرة خير ، وهذا قول البصريين ; والمراد بهذه الدار الجنة ; أي هي خير للمتقين . وقرئ : " وللدار الآخرة " . وقرأ نافع وعاصم ويعقوب وغيرهم " أفلا تعقلون " بالتاء على الخطاب . الباقون بالياء على الخبر .

قوله تعالى : حتى إذا استيأس الرسل تقدم القراءة فيه ومعناه . وظنوا أنهم قد كذبوا هذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم . وهذا الباب عظيم ، وخطره جسيم ، ينبغي الوقوف عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم . المعنى : وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب . حتى إذا استيأس الرسل أي يئسوا من إيمان قومهم . " وظنوا أنهم قد كذبوا " بالتشديد ; أي أيقنوا أن قومهم كذبوهم . وقيل المعنى : حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذبوهم ، لا أن القوم كذبوا ، ولكن الأنبياء ظنوا وحسبوا أنهم يكذبونهم ; أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شك ; فيكون وظنوا على بابه في هذا التأويل . وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع [ ص: 241 ] والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف " كذبوا " بالتخفيف ; أي ظن القوم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ، ولم يصدقوا . وقيل : المعنى ظن الأمم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم . وفي رواية عن ابن عباس ; ظن الرسل أن الله أخلف ما وعدهم . وقيل : لم تصح هذه الرواية ; لأنه لا يظن بالرسل هذا الظن ، ومن ظن هذا الظن لا يستحق النصر ; فكيف قال : جاءهم نصرنا ؟ ! قال القشيري أبو نصر : ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم ; وفي الخبر : إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به . ويجوز أن يقال : قربوا من ذلك الظن ; كقولك : بلغت المنزل ، أي قربت منه . وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال : كانوا بشرا فضعفوا من طول البلاء ، ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا ; ثم تلا : حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله . وقال الترمذي الحكيم : وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعد ما وعد الله النصر ، لا من تهمة لوعد الله ، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم ; فكانت إذا طالت عليهم المدة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه . وقال المهدوي عن ابن عباس : ظنت الرسل أنهم قد أخلفوا على ما يلحق البشر ; واستشهد بقول إبراهيم - عليه السلام - : رب أرني كيف تحي الموتى الآية . والقراءة الأولى أولى . وقرأ مجاهد وحميد - " قد كذبوا " بفتح الكاف والذال مخففا ; على معنى : وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا ، لما رأوا من تفضل الله - عز وجل - في تأخير العذاب . ويجوز أن يكون المعنى : ولما أيقن الرسل أن قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم جاء الرسل نصرنا . وفي البخاري عن عروة عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله - عز وجل - : حتى إذا استيئس الرسل قال قلت : أكذبوا أم كذبوا ؟ قالت عائشة : كذبوا . قلت : فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ؟ قالت : أجل ! لعمري ! لقد استيقنوا بذلك ; فقلت لها : وظنوا أنهم قد كذبوا قالت : معاذ الله ! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها . قلت : فما هذه الآية ؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن [ ص: 242 ] كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصرنا عند ذلك . وفي قوله تعالى : جاءهم نصرنا قولان : أحدهما : جاء الرسل نصر الله ; قال مجاهد . الثاني : جاء قومهم عذاب الله ; قاله ابن عباس .

فنجي من نشاء قيل : الأنبياء ومن آمن معهم . وروي عن عاصم فنجي من نشاء بنون واحدة مفتوحة الياء ، و " من " في موضع رفع ، اسم ما لم يسم فاعله ; واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنها في مصحف عثمان ، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة . وقرأ ابن محيصن " فنجا " فعل ماض ، و " من " في موضع رفع لأنه الفاعل ، وعلى قراءة الباقين نصبا على المفعول .

ولا يرد بأسنا أي عذابنا .

عن القوم المجرمين أي الكافرين المشركين .

التالي السابق


الخدمات العلمية