الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة

[جمع أبو المنيع قرواش بن المقلد أهل الموصل وأظهر عندهم طاعة الحاكم صاحب مصر ]

فمن الحوادث فيها :

أنه ورد الخبر بأن أبا المنيع قرواش بن المقلد جمع أهل الموصل وأظهر عندهم طاعة الحاكم صاحب مصر وعرفهم ما عزم عليه من إقامة الدعوة له ودعاهم إلى قبول ذلك ، فأجابوه جواب الرعية المملوكة وأسروا الإباء والكراهية ، وأحضر الخاطب في يوم الجمعة الرابع من المحرم ، فخلع عليه وأعطاه النسخة ما يخطب به ، فكانت :

"الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وله الحمد الذي انجلت بنوره غمرات الغضب ، وانقدت بقدرته أركان النصب ، وأطلع بنوره شمس الحق من الغرب الذي محا بعدله جور الظلمة وقصم بقوته ظهر الغشمة فعاد الأمر إلى نصابه ، والحق إلى أربابه البائن بذاته المتفرد بصفاته الظاهر بآياته المتوحد بدلالاته ، لم تفته الأوقات فتسبقه الأزمنة ، ولم تشبهه الصور فتحويه الأمكنة ، ولم تره العيون فتصفه الألسنة ، سبق كل موجود وجوده ، وفات كل جود جوده ، واستقر في كل عقل توحيده ، وقام في كل مرأى شهيده ، أحمده بما يجب على أوليائه الشاكرين تحميده ، وأستعينه على القيام بما يشاء ويريده ، وأشهد له بما شهد أصفياؤه وشهوده ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يشوبها دنس الشرك ، ولا يعتريها وهم الشك ، خالصة من الإدهان ، قائمة بالطاعة والإذعان ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه اصطفاه واختاره لهداية [ ص: 75 ] الخلق ، وإقامة الحق ، فبلغ الرسالة ، وهدى من الضلالة والناس حينئذ عن التقوى غافلون ، وعن سبيل الحق ضالون ، فأنقذهم من عبادة الأوثان ، وأمرهم بطاعة الرحمن حتى قامت حجج الله وآياته ، وتمت بالتبليغ كلماته صلى الله عليه وعلى أول مستجيب له على أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، أساس الفضل والرحمة ، وعماد العلم والحكمة ، وأصل الشجرة الكرام البررة النابتة في الأرومة المقدسة المطهرة ، وعلى خلفائه الأغصان البواسق من تلك الشجرة ، وعلى ما خلص منها وزكا من الثمرة .

أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ، وارغبوا في ثوابه ، واحذروا من عقابه فقد ترون ما يتلى عليكم في كتابه ، قال الله تعالى :

يوم ندعوا كل أناس بإمامهم . وقال : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . فالحذر الحذر أيها الناس ، فكأن قد أفضت بكم الدنيا إلى الآخرة ، وقد بان أشراطها ولاح سراطها ومناقشة حسابها والعرض على كتابها : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره - 8 .

اركبوا سفينة نجائكم قبل أن تغرقوا ، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واعلموا أنه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ، وأنيبوا إلى الله خير الإنابة ، وأجيبوا داعي باب الإجابة قبل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول : لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب : لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . [ ص: 76 ]

تيقظوا من الغفلة والفترة قبل الندامة والحسرة وتمني الكرة والتماس الخلاص ولات حين مناص ، وأطيعوا إمامكم ترشدوا ، وتمسكوا بولاة العهد تهتدوا ، فقد نصب لكم علما لتهدوا به ، وسبيلا لتقتدوا به ، جعلنا الله وإياكم ممن تبع مراده ، وجعل الإيمان زاده والهمة تقواه ورشاده ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين" .

ثم جلس وقام فقال : "الحمد لله ذي الجلال وخالق الأنام ، ومقدر الأقسام المتفرد بالبقاء والدوام ، فالق الإصباح وخالق الأشباح ، وفاطر الأرواح أحمده أولا وآخرا ، وأستشهده باطنا وظاهرا ، وأستعين به إلها قادرا ، وأستنصره وليا ناصرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله شهادة من أقر بوحدانية إيمانا واعترف بربوبيته إيقانا وعلم برهان ما يدعو إليه ، وعرف حقيقة الدلالة عليه .

اللهم صل على وليك الأزهر ، وصديقك الأكبر علي بن أبي طالب أبي الأئمة الراشدين المهتدين ، اللهم صل على السبطين الطاهرين الحسن والحسين ، وعلى الأئمة الأبرار الصفوة الأخيار من أقام منهم وظهر ، ومن خاف منهم واستتر ، اللهم صل على الإمام المهدي بك ، والذي بلغ بأمرك وأظهر حجتك ونهض بالعدل في بلادك هاديا لعبادك ، اللهم صل على القائم بأمرك وعلى المنصور بنصرك اللذين بذلا نفوسهما في رضاك وجاهدا أعداءك ، اللهم صل على المعز لدينك ، المجاهد في سبيلك ، المظهر لآياتك الحقية والحجة الجلية . اللهم صل على العزيز بك الذي مهدت به البلاد وهديت به العباد ، اللهم اجعل توافي صلواتك وزواكي بركاتك على سيدنا ومولانا إمام الزمان وحصن الإيمان وصاحب الدعوة العلوية والملة النبوية عبدك ووليك المنصور أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ، كما صليت على آبائه الراشدين وأكرمت أولياءك المهتدين ، اللهم أعنه على ما وليته ، واحفظه فيما استرعيته ، وبارك له فيما آتيته وانصر جيوشه ، وأعل أعلامه في مشارق الأرض ومغاربها ، إنك على كل شيء قدير" .

وكان السبب في هذا أن رسل الحاكم ومكاتباته كانت تتردد إلى قرواش ترددا [ ص: 77 ] أوجبت استمالته ، فأقام له الدعوة بالموصل على ما ذكرناه وانحدر إلى الأنبار ، فتقدم إلى الخطيب بإقامتها فهرب الخطيب إلى الكوفة فأقامها بها يوم الجمعة ثاني ربيع الأول ، وأنفذ إلى القصر والمدائن فأقيمت بها في يوم الجمعة التاسع من هذا الشهر ، وكشف قرواش وجهه بالخلاف وأظهر المباينة وأدخل يده في المعاملات السلطانية وخبط الناس خبطة المخارقة ، وورد على الخليفة من هذا ما أزعجه فراسل عميد الجيوش وكاتب بهاء الدولة وأنفذ إليه أبا بكر محمد بن الطيب المتكلم رسولا ، وحمله قولا طويلا ، فقال : والله إن عندنا من هذا الأمر أكثر مما عند أمير المؤمنين ، لأن الفساد علينا به أكثر وقد كاتبنا أبا علي وتقدمنا بإطلاق مائة ألف دينار يستعين بها على نفقات العسكر ، وإن دعت الحاجة إلى مسيرنا كنا أول طالع على أمير المؤمنين .

ثم نفذ إلى قرواش في ذلك فاعتذر ووثق من نفسه في إزالة ذلك ووثق له في ترك المؤاخذة به ، ثم وقع الرضا عنه وأقيمت الخطبة للقادر بالله ، وكان الحاكم قد نفذ إلى قرواش ما قيمته ثلاثون ألف دينار فسار الرسول فتلقاه قطع الخطبة بالرقة فكتب إلى الحاكم يعرفه فكتب : "دع ما معك عند والي الرقة" .

وفي يوم الخميس لسبع بقين من صفر انقض كوكب في وقت العصر من الجانب الغربي إلى سمت دار الخلافة من الجانب الشرقي لم ير أعظم منه .

ولخمس بقين من رجب زادت دجلة وامتدت الزيادة إلى رمضان ، فبلغت إحدى وعشرين ذراعا ، ودخل الماء أكثر الدور الشاطئة ، وقطيعة الدقيق ، وباب التبن ، وباب الشعير ، وباب الطاق ، وفاض على مسجد الكف بقطيعة الدقيق فخربه واحتمل أجذعه وسقوفه ، وتفجرت البثوق وغرقت القرى والحصون .

[ورود الوزير أبي غالب بن خلف إلى بغداد ]

وفي هذه السنة : ورد الوزير أبو غالب بن خلف إلى بغداد ، وقد رد إليه أمر العراق ، ولقب فخر الملك .

[تقليد أبي محمد مكرم كرمان ]

وفيها : قلد أبو محمد مكرم كرمان مضافة إلى عمان . [ ص: 78 ]

وفيها عصى أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي على الحاكم ، ودعا إلى نفسه وتلقب بالراشد بالله . ولم يحج في هذه السنة أحد من العراق .

التالي السابق


الخدمات العلمية