الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين ، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه ؛ لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف ، وهذه المبالغة تدل على أن الآية المتقدمة خطاب مع المؤمنين وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي هنا ، وكذلك في الحجرات " فتثبتوا " من ثبت ثباتا ، والباقون بالنون من البيان ، والمعنيان متقاربان ، فمن رجح التثبيت قال : إنه خلاف الإقدام ، والمراد في الآية التأني وترك العجلة ، ومن رجح التبيين قال : المقصود من التثبيت التبيين ، فكان التبيين أبلغ وأكمل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الضرب معناه السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد ، وأصله من الضرب باليد ، وهو كناية عن الإسراع في السير فإن من ضرب إنسانا كانت حركة يده عند ذلك الضرب سريعة ، فجعل الضرب كناية عن الإسراع في السير .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الزجاج : ومعنى ( ضربتم في سبيل الله ) أي غزوتم وسرتم إلى الجهاد .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أراد الانقياد والاستسلام إلى المسلمين ، ومنه قوله : ( وألقوا إلى الله يومئذ السلم ) [ النحل : 87] أي : استسلموا للأمر ، ومن قرأ " السلام " بالألف فله معنيان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن يكون المراد السلام الذي يكون هو تحية المسلمين ، أي لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية : إنه إنما قالها تعوذا ، فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله ، ولكن كفوا واقبلوا منه ما أظهره .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون المعنى : لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمنا ، وأصل هذا من السلامة ؛ لأن المعتزل طالب للسلامة .

                                                                                                                                                                                                                                            قال صاحب الكشاف : قرئ " مؤمنا " بفتح الميم من آمنه أي : لا نؤمنك .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في سبب نزول هذه الآية روايات :

                                                                                                                                                                                                                                            الرواية الأولى : أن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك ، أسلم ولم يسلم من قومه غيره ، فذهبت سرية [ ص: 4 ] الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قومه وأميرهم غالب بن فضالة ، فهرب القوم وبقي مرداس لثقته بإسلامه ، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل ، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل ، وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم ، فقتله أسامة بن زيد وساق غنمه ، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجدا شديدا وقال : قتلتموه إرادة ما معه ، ثم قرأ الآية على أسامة ، فقال أسامة : يا رسول الله استغفر لي ، فقال : فكيف وقد تلا لا إله إلا الله ! قال أسامة : فما زال يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم استغفر لي وقال : أعتق رقبة .

                                                                                                                                                                                                                                            الرواية الثانية : أن القاتل محلم بن جثامة ، لقيه عامر بن الأضبط فحياه بتحية الإسلام ، وكانت بين محلم وبينه إحنة في الجاهلية فرماه بسهم فقتله ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "لا غفر الله لك" فما مضت به سبعة أيام حتى مات ، فدفنوه فلفظته الأرض ثلاث مرات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الذنب عنده" ثم أمر أن تلقى عليه الحجارة .

                                                                                                                                                                                                                                            الرواية الثالثة : أن المقداد بن الأسود قد وقعت له مثل واقعة أسامة ، قال : فقلت يا رسول الله ، أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ بشجرة ، فقال : أسلمت لله تعالى ، أفأقتله يا رسول الله بعد ذلك ؟ فقال رسول الله : لا تقتله ، فقلت : يا رسول الله إنه قطع يدي ، فقال عليه الصلاة والسلام : "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك بعد أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال " .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن أبي عبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل ، فإن كان سنانه عند نقرة نحره ، فقال : لا إله إلا الله فليرفع عنه الرمح " . قال القفال -رحمه الله- : ولا منافاة بين هذه الروايات ، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها ، فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اختلفوا في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا ؟ فالفقهاء قبلوها واحتجوا عليه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : هذه الآية ، فإنه تعالى لم يفرق في هذه الآية بين الزنديق وبين غيره ، بل أوجب ذلك في الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : قوله تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) [الأنفال : 38] وهو عام في جميع أصناف الكفرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أن الزنديق لا شك أنه مأمور بالتوبة ، والتوبة مقبولة على الإطلاق لقوله تعالى : ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) [الشورى : 25] وهذا عام في جميع الذنوب وفي جميع أصناف الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : إسلام الصبي صحيح عند أبي حنيفة ، وقال الشافعي : لا يصح .

                                                                                                                                                                                                                                            قال أبو حنيفة : دلت هذه الآية على صحة إسلام الصبي ؛ لأن قوله : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) عام في حق الصبي ، وفي حق البالغ .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الشافعي : لو صح الإسلام منه لوجب ؛ لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذنا في الكفر ، وهو غير جائز ، لكنه غير واجب عليه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ " الحديث ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : قال أكثر الفقهاء : لو قال اليهودي أو النصراني : أنا مؤمن ، أو قال أنا مسلم لا يحكم بهذا القدر بإسلامه ؛ لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام وهو الإيمان ، ولو قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعند قوم لا يحكم بإسلامه ؛ لأن فيهم من يقول : إنه رسول الله إلى العرب لا إلى الكل ، ومنهم من [ ص: 5 ] يقول : إن محمدا الذي هو الرسول الحق بعد ما جاء ؛ وسيجيء بعد ذلك ، بل لا بد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل ، وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية