الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  معلومات الكتاب

                                                                  موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

                                                                  القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

                                                                  بيان الطريق في رياضة الصبيان في أول نشوئهم ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم :

                                                                  اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها ، والصبي أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نقش ، ومائل إلى كل ما يمال به إليه ، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة ، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب ، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك ، وكان الوزر في رقبة القيم عليه ، وقد قال الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) [ التحريم : 6 ] ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى ، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ، ويحفظه من قرناء السوء ، ولا يعوده التنعم ، ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية ، فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد ، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره ، فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال . ومهما رأى فيه مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته ، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء ، فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه ، وهذه بشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب ، فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل ، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه . وأول ما يغلب عليه من الصفات : شره الطعام ، فينبغي أن يؤدب فيه ، مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه ، وأن يقول عليه : " بسم الله " عند أخذه ، وأن يأكل مما يليه ، وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره ، وأن لا يحدق في النظر إليه ولا إلى من يأكل ، وأن لا يسرع في الأكل ، وأن يجيد المضغ ، وأن لا يوالي بين اللقم ، ولا يلطخ يده ولا ثوبه ، وأن يعود الخبز القفار في بعض الأوقات حتى لا يصير بحيث يرى الأدم حتما ، وأن يقبح عنده كثرة الأكل ، بأن يشبه كل من يكثر الأكل بالبهائم ، وبأن يذم بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل ، ويمدح عنده الصبي المتأدب القليل الأكل ، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام ، وقلة المبالاة به ، والقناعة [ ص: 185 ] بالطعام الخشن ، أي طعام كان ، وأن يحبب إليه من الثياب ما ليس بملون وحرير ، ويقرر عنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين ، وأن الرجال يستنكفون منه ويكرر ذلك عليه ، ومهما رأى على صبي ثوبا من الحرير أو ملونا فينبغي أن يستنكره ويذمه ، وأن يحفظ عن الصبيان الذين عودوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة ، وعن مخالطة كل من يسمعه ما يرغبه فيه ، فإن الصبي مهما أهمل في ابتداء نشوئه ، خرج في الأغلب رديء الأخلاق ، كذابا حسودا سروقا نماما لحوحا ، ذا فضول وضحك وكياد ومجانة ، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب . ثم يشتغل في المكتب ، فيتعلم القرآن وأحاديث الأخيار وحكايات الأبرار وأحوالهم ؛ لينغرس في نفسه حب الصالحين ، ولا يحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله ؛ فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد ، ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه ، ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس ، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ، ولا يهتك ستره ، ولا يكاشفه ، ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله ، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه ، فإن أظهر ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة ، فعند ذلك إن عاد ثانيا أن يعاتب سرا ، ويعظم الأمر فيه ، ويقال له : " إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا ، وأن يطلع عليك في مثل هذا ، فتفتضح بين الناس " . ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين ؛ فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح ، ويسقط وقع الكلام من قلبه . وليكن الأب حافظا هيئة الكلام معه ، فلا يوبخه إلا أحيانا ، والأم تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح . وينبغي أن يمنع عن النوم نهارا ؛ فإنه يورث الكسل ، ولا يمنع منه ليلا ، ولكن يمنع الفرش الوطيئة ؛ حتى تتصلب أعضاؤه ، ولا يسخف بدنه فلا يصبر على التنعم ، بل يعود الخشونة في المفرش والملبس والمطعم . وينبغي أن يمنع من كل ما يفعله في خفية ، فإنه لا يخفيه إلا وهو يعتقد أنه قبيح ، فإذا تعود ترك فعل القبيح ، ويعود في بعض النهار المشي والحركة والرياضة ؛ حتى لا يغلب عليه الكسل ، ويعود أن لا يكشف أطرافه ، ولا يسرع المشي . ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه ، أو بشيء من مطاعمه وملابسه ، بل يعود التواضع والإكرام لكل من عاشره ، والتلطف في الكلام معهم ، ويمنع من أن يأخذ من الصبيان شيئا بدا له ، بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ ، وأن الأخذ لؤم وخسة ودناءة ، وأن ذلك من دأب الكلب ، فإنه يبصبص في انتظار لقمة والطمع فيها . وبالجملة يقبح إلى الصبيان حب الذهب والفضة والطمع فيهما ، ويحذر منهما أكثر مما يحذر من الحيات والعقارب ؛ فإن آفة حب الذهب والفضة أضر من آفة السموم على الصبيان ، بل وعلى الكبار أيضا . وينبغي أن يعود أن لا يبصق في مجلسه ولا يتمخط ولا يتثاءب بحضرة غيره ، ولا يستدبر غيره ولا يضع رجلا على رجل ولا يضع كفه تحت ذقنه ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل ، ويعلم كيفية الجلوس ، ويمنع كثرة الكلام ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة وأنه فعل أبناء اللئام ، ويمنع اليمين رأسا - صادقا كان أو كاذبا - حتى لا يعتاد ذلك في الصغر ، ويعود حسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سنا ، وأن يقوم لمن فوقه ويوسع له المكان ، ويجلس بين يديه ، [ ص: 186 ] ويمنع من لغو الكلام وفحشه ، ومن اللعن والسب ، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك ، فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء .

                                                                  وأصل تأديب الصبيان : الحفظ من قرناء السوء . وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعبا جميلا يستريح إليه من تعب المكتب ، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائما يميت قلبه ، ويبطل ذكاءه ، وينغص عليه العيش ، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسا . وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه ، وكل من هو أكبر منه سنا من قريب وأجنبي ، وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم ، وأن يترك اللعب بين أيديهم ، ومهما بلغ سن التمييز فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة ، ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان ، ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع ، ويخوف من السرقة ، وأكل الحرام ، ومن الخيانة ، والكذب ، والفحش ، فإذا وقع نشوؤه كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية