الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون . ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون . وإن كل لما جميع لدينا محضرون . وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون . وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون . ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون . سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 15 ] قوله تعالى: يا حسرة على العباد قال الفراء: المعنى: يالها حسرة على العباد . وقال الزجاج : الحسرة أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية له حتى يبقى قلبه حسيرا . وفي المتحسر على العباد قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنهم يتحسرون على أنفسهم، قال مجاهد والزجاج: استهزاؤهم بالرسل كان حسرة عليهم في الآخرة . وقال أبو العالية: لما عاينوا العذاب، قالوا: يا حسرتنا على المرسلين، كيف لنا بهم الآن حتى نؤمن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه تحسر الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم خوف كفار مكة فقال: ألم يروا أي: ألم يعلموا كم أهلكنا قبلهم من القرون فيعتبروا ويخافوا أن نعجل لهم الهلاك كما عجل لمن أهلك قبلهم ولم يرجعوا إلى الدنيا؟! . قال الفراء: وألف "أنهم" مفتوحة، لأن المعنى: ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون وقد كسرها الحسن، كأنه لم يوقع الرؤية على "كم"، فلم يقعها على "أن"، وإن استأنفتها كسرتها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإن كل لما وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة: "لما" بالتشديد، جميع لدينا محضرون أي: إن الأمم يحضرون يوم القيامة، فيجازون بأعمالهم . قال الزجاج : من قرأ "لما" بالتخفيف، فـ "ما" زائدة مؤكدة، والمعنى: وإن كلا لجميع، ومعناه: وما كل إلا جميع لدينا محضرون . ومن قرأ "لما" بالتشديد، فهو بمعنى "إلا"، تقول: "سألتك لما فعلت" و "إلا فعلت"0

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 16 ] وآية لهم الأرض الميتة وقرأ نافع: "الميتة" بالتشديد، وهو الأصل، والتخفيف أكثر، وكلاهما جائز; و "آية" مرفوعة بالابتداء، وخبرها "لهم"، ويجوز أن يكون خبرها "الأرض الميتة"; والمعنى: وعلامة تدلهم على التوحيد وأن الله يبعث الموتى أحياء الأرض الميتة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فمنه يأكلون يعني ما يقتات من الحبوب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وجعلنا فيها وقوله: وفجرنا فيها يعني في الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ليأكلوا من ثمره يعني النخيل، وهو في اللفظ مذكر .

                                                                                                                                                                                                                                      وما عملته أيديهم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحفص عن عاصم: "عملته" بهاء . وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "عملت" بغير هاء . والهاء مثبتة في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة، ومحذوفة من مصاحف أهل الكوفة . قال الزجاج : موضع "ما" خفض; والمعنى: ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم; ويجوز أن يكون "ما" نفيا; المعنى: ولم تعمله أيديهم، وهذا على قراءة من أثبت الهاء، فإذا حذفت الهاء، فالاختيار أن تكون "ما" في موضع خفض، وتكون بمعنى "الذي" فيحسن حذف الهاء; وكذلك ذكر المفسرون القولين، فمن قال بالأول، قال: ليأكلوا مما عملت أيديهم، وهو الغروس والحروث التي تعبوا فيها، ومن قال بالثاني، قال: ليأكلوا ما ليس من صنعهم، ولكنه من فعل الحق عز وجل أفلا يشكرون الله تعالى فيوحدوه؟! .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم نزه نفسه بقوله: سبحان الذي خلق الأزواج كلها يعني الأجناس كلها مما تنبت الأرض من الفواكه والحبوب وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 17 ] ومن أنفسهم وهم الذكور والإناث ومما لا يعلمون من دواب البر والبحر وغير ذلك مما لم يقفوا على علمه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية