الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( 141 ) )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في " الإسراف " ، الذي نهى الله عنه بهذه الآية ، ومن المنهي عنه .

فقال بعضهم : المنهي عنه : رب النخل والزرع والثمر و " السرف " الذي نهى الله عنه في هذه الآية ، مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف برب المال .

ذكر من قال ذلك :

14037 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال : حدثنا عاصم ، عن أبي العالية في قوله : ( وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ) ، الآية ، قال : [ ص: 174 ] كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة ، ثم تسارفوا ، فأنزل الله : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

14038 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن عاصم الأحول ، عن أبي العالية : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا سوى الزكاة ، ثم تباروا فيه ، أسرفوا ، فقال الله : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

14039 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن عاصم الأحول ، عن أبي العالية : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا ، ثم تسارفوا ، فقال الله : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

14040 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، جد نخلا فقال : لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته ! فأطعم ، حتى أمسى وليست له ثمرة ، فقال الله : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

14041 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : ( ولا تسرفوا ) ، يقول : لا تسرفوا فيما يؤتى يوم الحصاد ، أم في كل شيء ؟ قال : بلى ! في كل شيء ، ينهى عن السرف . قال : ثم عاودته بعد حين ، فقلت : ما قوله : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ؟ قال : ينهى عن السرف في كل شيء . ثم تلا ( لم يسرفوا ولم يقتروا ) ، [ سورة الفرقان : 67 ] .

14042 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا [ ص: 175 ] سفيان بن حسين ، عن أبي بشر قال : أطاف الناس بإياس بن معاوية بالكوفة ، فسألوه : ما السرف ؟ فقال : ما دون أمر الله فهو سرف .

14043 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولا تسرفوا ) ، لا تعطوا أموالكم فتغدوا فقراء .

وقال آخرون : " الإسراف " الذي نهى الله عنه في هذا الموضع : منع الصدقة والحق الذي أمر الله رب المال بإيتائه أهله بقوله : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) .

ذكر من قال ذلك :

14044 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو بكر بن عبد الله ، عن عمرو بن سليم وغيره ، عن سعيد بن المسيب في قوله : ( ولا تسرفوا ) ، قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا .

14045 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا محمد بن الزبرقان قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ، والسرف ، أن لا يعطي في حق . [ ص: 176 ]

وقال آخرون : إنما خوطب بهذا السلطان . نهي أن يأخذ من رب المال فوق الذي ألزم الله ماله .

ذكر من قال ذلك .

14046 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله : ( ولا تسرفوا ) ، قال : قال للسلطان : " لا تسرفوا " ، لا تأخذوا بغير حق ، فكانت هذه الآية بين السلطان وبين الناس يعني قوله : ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، الآية .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى بقوله : ( ولا تسرفوا ) ، عن جميع معاني " الإسراف " ، ولم يخصص منها معنى دون معنى .

وإذ كان ذلك كذلك ، وكان " الإسراف " في كلام العرب الإخطاء بإصابة الحق في العطية ، إما بتجاوز حده في الزيادة ، وإما بتقصير عن حده الواجب كان معلوما أن المفرق ماله مباراة ، والباذله للناس حتى أجحفت به عطيته ، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما [ ليس له ] . وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه ، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه ، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها . وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه . كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون ، داخلون [ ص: 177 ] في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله : ( ولا تسرفوا ) ، في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم إذ كان ما قبله من الكلام أمرا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده . فإن الآية قد كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاص من الأمور ، والحكم بها على العام ، بل عامة آي القرآن كذلك . فكذلك قوله : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

ومن الدليل على صحة ما قلنا من معنى " الإسراف " أنه على ما قلنا ، قول الشاعر :


أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف



يعني بالسرف الخطأ في العطية .

التالي السابق


الخدمات العلمية