الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كلام ابن رشد السابق خطأ من عدة وجوه

وهو متضمن لعدة وجوه من الخطإ: منها: أن الملك إذا كان واسطة رسول إلى من أرسل إليه، كما أن البشر أيضا رسول، ومثل هذه الواسطة قد تكون من العبد أيضا، فإنه قد يرسل رسولا، كما يكتب كتابا، والرسول مبلغ لكلام المرسل، فلا بد من إثبات كلام يبلغه الرسول.

والرسول قد يبلغ لفظ المرسل، وقد يبلغ معناه بعبارة أخرى، وقد يفهم مراده بطريق آخر فيبلغه عنه، فهذا كله يقع في البشر، كما يقع تكليم بعضهم لبعض باللفظ، فلا يجعل هذا من الله نوعا من الأنواع القائمة مقام اللفظ من البشر، فإن البشر تجمع بين النوعين: بين اللفظ وبين هذا، فكان الواجب أن يجعل هذا من الله قائما مقام الإرسال من البشر، لا مقام اللفظ.

وأيضا فإن الأقسام الثلاثة التي ذكرها لا تقوم مقام اللفظ من البشر. أما إحداث الفهم في العبد، فهذا مفعول من مفعولات الله [ ص: 210 ] كسائر مفعولاته، فجعل العبد يعلم بمنزلة جعله يسمع ويبصر، ويقدر ويعمل.

ومعلوم أن هذا لا يقدر عليه غير الله، وهو مع هذا متناول لجميع الحيوان.

قال تعالى: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [الأعلى: 1-3]. وقال موسى: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [طه: 50].

فهل يكون كل من جعله الله يعلم ما لم يكن يعلم يكون قد كلمه الله؟

وأيضا فهذا ليس نظير خطاب الإنسان بلفظه، ولا هذا واسطة في هذا التكليم، بل هذا هو نفس الواسطة.

وهو يثبت أمرين: أحدهما: فعل من الله هو التكليم.

والثاني واسطة أخرى غير الفعل.

وذلك لا يصلح لأمرين: أحدهما: أن الفعل غير المفعول، كما أقر بذلك غير مرة. وهنا لا يثبت لله فعلا غير ما حدث في نفس الملهم.

الثاني: أنه ليس هناك واسطة غير هذا الحادث، فنفس كون العبد يعلم هو التكليم عنده، وهو مفعول الحق. وإذا قدر قبل هذا العلم خلق استعداد في العبد، وإثبات شروط، وإزالة موانع، فتلك هي شروط العلم، كالنظر والاستدلال فيما يحصل بذلك.

وأما قوله: بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه.

فيقال له: هذا اللفظ: إن كان موجودا في شيء خارج عن المستمع، فهو قول المعتزلة، الذين يقولون: إن الله كلم موسى بكلام مخلوق في غيره. [ ص: 211 ]

وهو لم يرد هذا، بل قوله وقول أصحابه شر من هذا. وإن أراد ما هو مدلول لفظه وقول أصحابه، وهو أنه خلق لفظا في نفس موسى سمعه موسى من غير أن يكون له وجود في الخارج، فهذا من جنس ما يسمعه النائم في نفسه من الأصوات، وما يقع لأرباب الرياضيات من الأصوات التي يسمعونها في أنفسهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية