الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب الثالث في الواجب على السارق

                                                                                                                                                                        وهو شيئان : أحدهما : رد المال إن كان باقيا ، وضمانه إن تلف ، سواء في ذلك الغني والفقير .

                                                                                                                                                                        الثاني : القطع ، فتقطع من السارق والسارقة يده اليمنى ، فإن سرق ثانيا ، قطعت رجله اليسرى ، فإن سرق ثالثا ، قطعت يده اليسرى ، فإن سرق رابعا ، قطعت رجله اليمنى ، فإن سرق بعد ذلك ، عزر ، ونقل الإمام عن القديم قولا ، أنه يقتل للحديث ، والمشهور التعزير ، والحديث منسوخ أو مؤول على أنه قتله لاستحلاله ، أو لسبب آخر ، وتقطع اليد من الكوع ، والرجل من المفصل بين الساق والقدم ، ويمد العضو مدا عنيفا حتى ينخلع ، ثم يقطع بحديدة ماضية ، ويمكن المقطوع جالسا ويضبط لئلا يتحرك ، ويحسم موضع القطع بأن يغمس في زيت أو دهن مغلي ؛ لتنسد أفواه العروق وينقطع الدم ، وهل هذا حق لله تعالى وتتمة للحد ، أم هو حق للمقطوع ونظر له ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ، فعلى الأول يتركه الإمام ، ويكون ثمن الدهن ومؤنة الحسم على الخلاف في مؤنة الجلاد ، وإن قلنا بالأصح ، فالمؤنة على [ ص: 150 ] المقطوع ، ولو تركه السلطان ، فلا شيء عليه ، وحينئذ يستحب للسارق أن يحسم ولا يجب ، لأن في الحسم ألما شديدا وقد يهلك الضعيف ، والمداواة بمثل هذا لا تجب بحال ، وقيل : للإمام إجباره والصحيح الأول ، ويستحب للإمام أن يأمر بالحسم عقب القطع ، ولا يفعله إلا بإذن السارق إلا على قول من أجبره ، والسنة أن تعلق اليد المقطوعة في عنقه ، ثم الذي يوجد في كتب الجمهور أنها تعلق ساعة ، وأطلقوا ولم يفوضوه إلى رأي الإمام ، وحكى الإمام وجها أنها لا تعلق ، ووجها تعلق ثلاثا ، ووجها الأمر فيه إلى رأي الإمام ، وهذه الأوجه غريبة ضعيفة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو كان على يمينه أصبع زائدة ، فوجهان ، أحدهما : لا تقطع ، بل تقطع رجله اليسرى ، وأصحهما : تقطع ولا يبالى بالزيادة ؛ لأن المراد التنكيل بخلاف القصاص ، فإن مقصوده المساواة ، ولو كانت اليمين شلاء ، فإن قال أهل الخبرة : إن قطعت لا ينقطع الدم ، لم تقطع ، ويكون كمن لا يمين له ، وإن قالوا : ينقطع ، قطعت واكتفي بها ، ولو كانت ناقصة أربع أصابع ، اكتفينا بها لحصول الإيلام والتنكيل ، وإن لم يبق إلا الكف ، أو بعض الكف بلا أصابع ، ففي الاكتفاء بذلك وجهان ، أو قولان ، أصحهما : الاكتفاء لما ذكرنا ، وطرد القاضي أبو حامد الوجهين فيما لو كانت يمينه بلا إبهام .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من لا يمين له ، تقطع رجله اليسرى كما ذكرنا ، ولو سرق ويمينه سليمة ، فسقطت بآفة أو جناية ، سقط عنه القطع ، وقيل : يعدل إلى الرجل ، كما لو فات محل القصاص يعدل إلى بدله ، وهو الدية ، والصحيح [ ص: 151 ] الأول ؛ لأن القطع تعلق بها ، ولو سرق مرارا ولم يقطع ، اكتفي بقطع يمينه عن الجميع ، كمن زنى ، أو شرب مرات يلزمه حد واحد .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        بدر أجنبي ، فقطع يمين السارق بغير إذن الإمام ، لا قصاص عليه ؛ لأنها مستحقة القطع ، فلو سرى إلى النفس ، فلا ضمان ؛ لأنها متولدة من مستحق ، لكن يعزر المبادر لافتئاته على الإمام ، هكذا أطلقوه ، ويشبه أن يجعل وجوب القصاص على الخلاف في قتل الزاني المحصن ولو قطع يساره جان ، أو قطعها الجلاد عمدا ، وجب القصاص على القاطع ، ولا يسقط عن السارق قطع اليمين ، فلو قال القاطع : لم أعلم أنها يساره ، حلف ولزمته الدية ، ولو قال الجلاد للسارق : أخرج يمينك ، فأخرج يساره ، فقطعها ، فطريقان ، قال القاضي أبو الطيب وآخرون : إن قال المخرج : ظننتها اليمين ، أو أن اليسار تجزئ سقط بها القطع على الأظهر ، فإن قلنا : لا يسقط ، فقال القاطع : علمت أنها اليسار ، وأنها لا تجزئ ، لزمه القصاص ، وإن قال : ظننتها اليمين ، أو أنها تجزئ ، لزمه الدية ، وقال الشيخ أبو حامد : يراجع القاطع أولا ، فإن قال : علمتها اليسار وأنها لا تجزئ ، لزمه القصاص وبقي القطع واجبا في اليمين ، وإن قال : ظننتها اليمين ، أو أن اليسار تجزئ ، لزمه الدية ، وفي سقوط قطع اليمين القولان ، وكلام الإمام وغيره يوافق هذا الطريق ، إلا أن القصاص إنما يلزم القاطع ، وإن علم الحال إذا لم يوجد من المخرج قصد بذل وإباحة ، ولو سقطت يسار السارق بآفة بعد وجوب قطع اليمين ، فقال أبو إسحاق : يسقط قطع اليمين في قول كما في مسألة غلط الجلاد . وغلطه الأصحاب وقالوا : لا يسقط .

                                                                                                                                                                        [ ص: 152 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو كان لمعصمه كفان نقل الإمام عن الأصحاب أنهما تقطعان ، ولا يبالى بالزيادة ، كالأصبع الزائدة ، واختار هو أن يفصل ، فإن تميزت الأصلية ، وأمكن الاقتصار على قطعها ، لم تقطع الزائدة ، وإلا فتقطع ، فلو أشكل الحال ، قال الإمام : فالذي رأيته للأصحاب أنهما يقطعان ، ويوافقه ما في فتاوى القفال أن الكفين الباطشتين تقطعان جميعا ؛ لأنهما في حكم يد ، ولهذا لا تجب فيهما ديتان ، لكن في " التهذيب " أنه تقطع في السرقة إحداهما ، فإن سرق ثانيا ، قطعت الأخرى ، ولا تقطعان بسرقة واحدة بخلاف الأصبع الزائدة ؛ لأنه لا يقع عليها اسم يد وهذا أحسن ، قال : ولو كان يبطش بأحدهما ، قطعت الباطشة دون الأخرى ، وإن سرق ثانيا ، قطعت رجله ، فلو صارت الأخرى باطشة ، فسرق ثانيا ، قطعت هي لا الرجل ، فإن سرق ثالثا ، قطعت الرجل .

                                                                                                                                                                        قلت : الصحيح المنصوص أنه لا يقطع إلا إحداهما كما ذكره في " التهذيب " ، وقد جزم به جماعة ، منهم القاضي أبو الطيب وصاحب " البحر " والشيخ نصر المقدسي وغيرهم ، ونقله القاضي والمقدسي عن نص الشافعي - رحمه الله - وقد أوضحته في صفة الوضوء من شرح المهذب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في مسائل منثورة

                                                                                                                                                                        في فتاوى القفال ، إذا كان ثوبه بين يديه في المسجد ، فقال لرجل : احفظ ثوبي ، فقال : نعم أحفظه ، فرقد صاحب الثوب ، وذهب الرجل ، وترك الثوب ، فسرق ، لزمه الضمان ، ولو سرقه المستحفظ فلا قطع عليه ، ولو أغلق باب داره أو حانوته ، وقال للحارس : انظر إليه أو [ ص: 153 ] احفظه ، فأهمله الحارس ، فسرق ما فيه ، لم يضمن ؛ لأنه محرز في نفسه ، ولم يدخل تحت يده ، ولو سرقه الحارس ، قطع ، وفي فتاوى الغزالي : إذا تغفل السارق الحمامي وسرق الثياب ، اعتبر في وجوب القطع أن يخرجها من الحمام ، وأن الموضوع في الصحراء لا يكفي لوجوب القطع أخذه ، ولا النقل بخطوة ونحوها ، بل ضبط مثل ذلك أن يقال : إحراز مثله بالمعاينة ، فإذا غيبه عن عينه بحيث لو تنبه له لم يره ، بأن دفنه في تراب ، أو واراه تحت ثوبه ، أو حال بينهما جدار ، فقد أخرجه من حرزه ، وأنه لو علم قردا النزول إلى الدار ، وإخراج المتاع ، فنقب ، وأرسل القرد وأخرج المتاع ، ينبغي أن لا يقطع ؛ لأن للحيوان اختيارا بخلاف الأخذ بالمحجن ، وفي فتاوى البغوي : لو وضع ميت على وجه الأرض ونضدت الحجارة عليه ، كان ذلك كالدفن ، حتى يجب القطع بسرقة الكفن لا سيما إذا كان لا يمكنهم الحفر .

                                                                                                                                                                        قلت : ينبغي أن لا يقطع إلا إن تعذر الحفر ؛ لأنه ليس بدفن . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأنهم لو كانوا في بحر ، فطرح الميت في الماء ، فأخذ رجل كفنه ، لم يقطع ؛ لأنه ظاهر ، فهو كما لو وضع الميت على شفير القبر ، فأخذ ، ولو غيبه الماء ، فغاص سارق ، وأخذ الكفن ، لم يقطع أيضا ؛ لأن طرحه لا يعد إحرازا ، وقد يتوقف في هذا ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية