الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله (تعالى): ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ؛ الآية: قد قيل: فيه وجهان؛ أحدهما: أن تجعل يمينه مانعة من البر؛ والتقوى؛ والإصلاح بين الناس؛ فإذا طلب منه ذلك قال: قد حلفت؛ فيجعل اليمين معترضة بينه وبين ما هو مندوب إليه؛ أو هو مأمور به من البر؛ والتقوى؛ والإصلاح؛ فإن حلف حالف ألا يفعل ذلك؛ فليفعل؛ وليدع يمينه؛ ويروى ذلك عن مجاهد ؛ وسعيد بن جبير ؛ وإبراهيم؛ والحسن ؛ وطاوس ؛ وهو نظير قوله (تعالى): ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ؛ وروى أشعث عن ابن سيرين قال: حلف أبو بكر في يتيمين كانا في حجره؛ كانا فيمن خاض في أمر عائشة ؛ أحدهما مسطح ؛ وقد شهد بدرا؛ ألا يصلهما؛ وألا يصيبا منه خيرا؛ فنزلت هذه الآية: ولا يأتل أولو الفضل منكم ؛ فكسا أحدهما؛ وحمل الآخر؛ وقد ورد معناه في السنة أيضا؛ وقد روى أنس بن مالك ؛ وعدي بن حاتم؛ وأبو هريرة ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من حلف على يمين؛ فرأى غيرها خيرا منها؛ فليأت الذي هو خير؛ وليكفر عن يمينه .

وهذا هو معنى قوله (تعالى): ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ؛ على التأويل الذي ذكرنا؛ لأن معناه على هذا التأويل ألا يمنع بيمينه من فعل ما هو خير؛ بل يفعل الذي هو خير؛ ويدع يمينه؛ والوجه الثاني: أن يكون قوله: عرضة لأيمانكم ؛ يريد به كثرة الحلف؛ وهو ضرب من الجرأة على الله (تعالى)؛ وابتذال لاسمه في كل حق؛ وباطل؛ لأن تبروا في الحلف بها؛ وتتقوا المأثم فيها؛ وروي نحوه عن عائشة : "من أكثر ذكر شيء فقد جعله عرضة؛ يقول القائل: قد جعلتني عرضة للوم"؛ وقال الشاعر:


............... ... فلا تجعليني عرضة للوائم



وقد ذم الله (تعالى) مكثري الحلف بقوله: ولا تطع كل حلاف مهين ؛ فالمعنى: لا تعترضوا اسم الله (تعالى)؛ وتبذلوه في كل شيء; لأن تبروا إذا حلفتم؛ وتتقوا المأثم فيها إذا قلت أيمانكم؛ لأن كثرتها تبعد من البر والتقوى؛ [ ص: 43 ] وتقرب من المآثم؛ والجرأة على الله (تعالى)؛ فكأن المعنى: إن الله ينهاكم عن كثرة الأيمان؛ والجرأة على الله (تعالى)؛ لما في توقي ذلك من البر؛ والتقوى؛ والإصلاح؛ فتكونون بررة؛ أتقياء؛ لقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس ؛ وإذا كانت الآية محتملة للمعنيين؛ وليسا متضادين؛ فالواجب حملها عليهما جميعا؛ فتكون مفيدة لحظر ابتذاله اسم الله (تعالى)؛ واعتراضه باليمين في كل شيء؛ حقا كان أو باطلا؛ ويكون مع ذلك محظورا عليه أن يجعل يمينه عرضة مانعة من البر؛ والتقوى؛ والإصلاح؛ وإن لم يكثر؛ بل الواجب عليه ألا يكثر اليمين؛ ومتى حلف لم يحتجر بيمينه عن فعل ما حلف عليه؛ إذا كان طاعة؛ وبرا؛ وتقوى؛ وإصلاحا؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: من حلف على يمين؛ فرأى غيرها خيرا منها؛ فليأت الذي هو خير؛ وليكفر عن يمينه .

التالي السابق


الخدمات العلمية