الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإن يونس لمن المرسلين . إذ أبق إلى الفلك المشحون . فساهم فكان من المدحضين . فالتقمه الحوت وهو مليم . فلولا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [ ص: 86 ] فنبذناه بالعراء وهو سقيم . وأنبتنا عليه شجرة من يقطين . وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون . فآمنوا فمتعناهم إلى حين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إذ أبق قال المبرد: تأويل "أبق": تباعد; وقال أبو عبيدة: فزع; وقال الزجاج : هرب; وقال بعض أهل المعاني: خرج ولم يؤذن له، فكان بذلك كالهارب من مولاه . قال الزجاج : والفلك: السفينة، والمشحون: المملوء، وساهم بمعنى [قارع]، من المدحضين أي: المغلوبين; قال ابن قتيبة : يقال: أدحض الله حجته، فدحضت، أي: أزالها [فزالت]، وأصل الدحض: الزلق .

                                                                                                                                                                                                                                      الإشارة إلى قصته

                                                                                                                                                                                                                                      قد شرحنا بعض قصته في آخر يونس وفي [الأنبياء: 86] على قدر ما تحتمله الآيات، ونحن نذكر هاهنا ما تحتمله . قال عبد الله بن مسعود: لما وعد يونس قومه بالعذاب بعد ثلاث، جأروا إلى الله عز وجل واستغفروا، فكف عنهم العذاب، فانطلق مغاضبا حتى انتهى إلى قوم في سفينة، فعرفوه فحملوه، فلما ركب السفينة وقفت، فقال: ما لسفينتكم؟ قالوا: لا ندري، قال: لكني أدري، فيها عبد آبق من ربه، إنها والله لا تسير حتى تلقوه، فقالوا: أما أنت يا نبي الله فوالله لا نلقيك، قال: فاقترعوا، فمن قرع فليقع، فاقترعوا، فقرع يونس، فأبوا أن يمكنوه من الوقوع، فعادوا إلى القرعة حتى قرع يونس ثلاث مرات . وقال طاووس: إن صاحب السفينة هو الذي قال: إنما يمنعها أن تسير [ ص: 87 ] أن فيكم رجلا مشؤوما، فاقترعوا لنلقي أحدنا، فاقترعوا، فقرع يونس ثلاث مرات .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون: وكل الله به حوتا، فلما ألقى نفسه في الماء التقمه، وأمر أن لا يضره ولا يكلمه، وسارت السفينة حينئذ . ومعنى التقمه: ابتلعه .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو مليم قال ابن قتيبة : أي: مذنب، يقال: ألام الرجل: إذا أتى ذنبا يلام عليه، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      [تعد معاذرا لا عذر فيها] ومن يخذل أخاه فقد ألاما



                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فلولا أنه كان من المسبحين فيه ثلاثة أقوال . أحدها: من المصلين، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير . والثاني: من العابدين، قاله مجاهد، ووهب بن منبه . والثالث: قول لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء: 87]، قاله الحسن . وروى عمران القطان عن الحسن قال: والله ما كانت الا صلاة أحدثها في بطن الحوت; فعلى هذا القول، يكون تسبيحه في بطن الحوت . وجمهور العلماء على أنه أراد: لولا ما تقدم له قبل التقام الحوت إياه من التسبيح، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون قال قتادة: لصار بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة، ولكنه كان كثير الصلاة في الرخاء، فنجاه الله تعالى بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 88 ] وفي قدر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال . أحدها: أربعون يوما، قاله أنس بن مالك، وكعب، وأبو مالك، وابن جريج، والسدي . والثاني: سبعة أيام، قاله سعيد بن جبير، وعطاء . والثالث: ثلاثة أيام، قاله مجاهد، وقتادة . والرابع: عشرون يوما، قاله الضحاك . والخامس: بعض يوم، التقمه ضحى، ونبذه قبل غروب الشمس، قاله الشعبي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فنبذناه قال ابن قتيبة : أي: ألقيناه بالعراء وهي الأرض التي لا يتوارى فيها بشجر ولا غيره، وكأنه من عري الشيء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وهو سقيم أي: مريض; قال ابن مسعود كهيأة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش وقال سعيد بن جبير: أوحى الله تعالى إلى الحوت أن ألقه في البر، فألقاه لا شعر عليه، ولا جلد ولا ظفر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وأنبتنا عليه شجرة من يقطين قال ابن عباس: هو القرع، وقد قال أمية بن أبي الصلت قبل الإسلام:


                                                                                                                                                                                                                                      فأنبت يقطينا عليه برحمة     من الله لولا الله ألفي ضاحيا



                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : كل شجرة لا تنبت على ساق وإنما تمتد على وجه الأرض نحو القرع والبطيخ والحنظل، فهي يقطين، واشتقاقه من: قطن بالمكان: إذا أقام، فهذا الشجر ورقه كله على وجه الأرض، فلذلك قيل له: يقطين . قال ابن مسعود: كان يستظل بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم؟! قال يزيد بن عبد الله بن قسيط: قيض [الله] له أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشيا فيشرب من لبنها حتى نبت لحمه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 89 ] فإن قيل: ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب: أنه خرج كالفرخ على ما وصفنا، وجلده قد ذاب، فأدنى شيء يمر به يؤذيه، وفي ورق اليقطين خاصية، وهو أنه إذا ترك على شيء، لم يقربه ذباب، فأنبته الله عليه ليغطيه ورقها ويمنع الذباب ريحه أن يسقط عليه فيؤذيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وأرسلناه إلى مائة ألف اختلفوا، هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه أم بعد ذلك؟ على قولين .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها كانت بعد نبذ الحوت إياه، على ما ذكرنا في [يونس: 98]، وهو مروي عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها كانت قبل التقام الحوت له، وهو قول الأكثرين، منهم الحسن، ومجاهد، وهو الأصح، والمعنى: وكنا أرسلناه إلى مائة ألف، فلما خرج من بطن الحوت، أمر أن يرجع إلى قومه الذين أرسل إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله: [أو] ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها بمعنى "بل" قاله ابن عباس، والفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها بمعنى الواو، قاله ابن قتيبة . وقد قرأ أبي بن كعب ، ومعاذ القارئ، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني: "ويزيدون" من غير ألف .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 90 ] والثالث: أنها على أصلها، والمعنى: أو يزيدون في تقديركم، إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي زيادتهم أربعة أقوال . أحدها: أنهم كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفا، رواه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني: أنهم كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا . والثالث: مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفا، رويا عن ابن عباس . والرابع: أنهم كانوا يزيدون سبعين ألفا، قاله سعيد بن جبير، ونوف .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فآمنوا في وقت إيمانهم قولان . أحدهما: عند معاينة العذاب . والثاني: حين أرسل إليهم يونس فمتعناهم إلى حين إلى منتهى آجالهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية