الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن باب الإشارة: ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون فيه إشارة إلى ذم من كان همه بطنه وتنفيذ شهواته، قال أبو عثمان: أسوأ الناس حالا من كان همه ذلك فإنه محروم عن الوصول إلى حرم القرب وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون رموه وحاشاه صلى الله تعالى عليه وسلم بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة والسلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم. والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من الله سبحانه به على أوليائه من الأسرار أن يبادروهم بالإنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات، ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة [ ص: 54 ] إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون قال ابن عطاء: أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبيانا للهدى فينتفع به من كان موسوما بالسعادة منورا بتقديس السر عن دنس المخالفة وإنا له لحافظون في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين أشار سبحانه إلى سماء الذات وبروج الصفات والجلال فيسير في ذلك القلب والسر والعقل والروح فيحصل للروح التوحيد والتجريد والتفريد وللعقل المعارف والكواشف وللقلب العشق والمحبة والخوف والرجاء والقبض والبسط والعلم والخشية والأنس والانبساط وللسر الفناء والبقاء والسكر والصحو وحفظناها من كل شيطان رجيم إشارة إلى منع كشف جمال صفاته سبحانه وجلال ذاته عز وجل عن أبصار البطالين والمدعين والمبطلين الزائغين عن الحق إلا من استرق السمع اختلس شيئا من سكان هاتيك الحضائر القدسية من الكاملين فأتبعه شهاب مبين نار التحير فهلك في بوادي التيه أو صار غولا يضل السائرين السالكين لتحصيل ما ينفعهم، وقيل الإشارة في ذلك: إنا جعلنا في سماء العقل بروج المقامات ومراتب العقول من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد وزيناها بالعلوم والمعارف للناظرين المتفكرين وحفظناها من شياطين الأوهام الباطلة إلا من اختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل فأتبعه شهاب البرهان الواضح فطرده وأبطل حكمه اه ولا يخفى ما في تزيين كل مرتبة من مراتب العقول المذكورة بالعلوم والمعارف للمتفكرين من النظر على من تفكر، وقيل: الإشارة إلى أنه تعالى جعل في سماء القلوب بروج المعارف تسير فيها سيارات الهمم، وجعلها زينة للناظرين إليها المطلعين عليها من الملائكة والروحانيين وحفظها من الشياطين فلو دنا إبليس أو جنوده من قلب عارف احترق بنور معرفته ورد خاسئا. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلي جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أوليائه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير، وفي الخبر « ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن »

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه تعالى لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته. وقال بعضهم: نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة، والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة، والازدهار الأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك، وقيل: أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكات الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل وجعلنا لكم فيها معايش بالتدابير الجزئية ومن لستم له برازقين ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم، قال بعضهم: إن سبب العيش مختلف فعيش المريدين بيمن إقباله تعالى وعيش العارفين بلطف جماله سبحانه وعيش الموحدين بكشف جلاله جل جلاله.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن من شيء إلا عندنا خزائنه أي ما من شيء إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء وما ننزله في عالم الشهادة إلا بقدر معلوم من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل حسبما يقتضيه استعداده، قيل: إن الإشارة في ذلك إلى دعوة العباد إلى حقائق التوكل وقطع الأسباب والإعراض عن الأغيار، ومن هنا قال حمدون: إنه سبحانه [ ص: 55 ] قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم، وكان الجنيد قدس سره إذا قرأ هذه الآية يقول: فأين تذهبون؟ ويقال: خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار، ومنهم من قال:

                                                                                                                                                                                                                                      النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك وأرسلنا على القلوب الرياح النفحات الإلهية لواقح بالحكم والمعارف، قال ابن عطاء: رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكرم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه، وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقي من حرمها فأنزلنا من السماء أي سماء الروح ماء من العلوم الحقيقية فأسقيناكموه وأحييناكم به وما أنتم له أي لذلك الماء بخازنين لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم وإنا لنحن نحيي القلوب بماء العلم والمشاهدة ونميت النفوس بالجد والمجاهدة، وقيل: نحيي بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة، وقيل: نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات، وقال الواسطي: نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا، وقال الوراق: نحيي القلوب بنور الإيمان ونميت النفوس باتباع الشيطان وقيل وقيل: ونحن الوارثون للوجود والباقون بعد الفناء ولقد علمنا المستقدمين منكم وهم المشتاقون الطالبون للتقدم ولقد علمنا المستأخرين وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الأنس، ومن هنا قال ابن عطاء: من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناس والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين، وقيل: المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرين أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والأعراض، وقيل: الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعوا إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة، وقيل: الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص، وقيل: غير ذلك وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه، وسماه بشرا لأنه جل شأنه باشر خلقه بيديه، ولم يثن سبحانه اليد لأحد إلا له، وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين أضاف سبحانه الروح إلى نفسه تشريفا لها وتعظيما لقدرها لما أنها سر خفي من أسراره جل وعلا، ولذا قيل: من عرف نفسه عرف ربه، وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما تظهر إذ ذاك، ولذا لما تم الأمر وجلدت النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه أبى أن يكون مع الساجدين ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه السلام ولم يخطر في باله أيضا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان، ومن هنا قيل:


                                                                                                                                                                                                                                      لو قال تيها قف على جمر الغضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف



                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض أهل الوحدة: إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى، وقد أخطأ [ ص: 56 ] أيضا لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الإثنينية. وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقا فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية، ومن هنا قال قائلهم:


                                                                                                                                                                                                                                      ما آدم في الكون ما إبليس     ما ملك سليمان وما بلقيس
                                                                                                                                                                                                                                      الكل عبارة وأنت المعنى     يا من هو للقلوب مغناطيس



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسين بن منصور:


                                                                                                                                                                                                                                      جحودي لك تقديس     وعقلي فيك منهوس
                                                                                                                                                                                                                                      فمن آدم إلاك     ومن في البين إبليس



                                                                                                                                                                                                                                      وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الراقع وتفاقم الأمر وما له سوى الله تعالى من دافع قال فاخرج منها فإنك رجيم طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الامتثال وكلما ازداد العبد قربا من ربه ازداد خضوعا وخشوعا وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين لم يرد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافا لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض أي لأزينن لهم الشهوات في الجهة السفلية ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين الذين أخلصتهم لك واصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون لأحد سواك، وفيه من مدح الإخلاص ما فيه، وفي الخبر « العالم هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر »

                                                                                                                                                                                                                                      أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته.

                                                                                                                                                                                                                                      إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين أي الذين يناسبونك في الغواية والبعد وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال: كانت للأنبياء عليهم السلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم أن يستنبئ ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله تعالى ثم سأل ما بدا له فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي: أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثلاثا فقال إبليس: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ قال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم فأجد كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي: إن الله تعالى يقول: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين قال إبليس: قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي: ويقول الله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله وإني والله تعالى ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله تعالى منك قال إبليس: صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم قال: آخذه عند الغضب وعند الهوى لكل باب منهم جزء مقسوم

                                                                                                                                                                                                                                      فيكون لكل باب فرقة تغلب عليها قوة ذلك الباب، نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها بحرمة سيد ذوي الألباب صلى الله تعالى عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية