الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة أي: لو ثبت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                      فنتبرأ منهم أي: من المتبوعين، كما تبرءوا منا تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله - تعالى - فيتبرءوا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعا مثل تبرؤ المتبوعين منهم، مجازاة لهم بمثل صنيعهم؛ أي: كما جعلوا بالتبري غائظين متحيرين على متابعتهم نجعلهم أيضا بالتبري غائظين متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم، ولذا لم يتبرءوا منهم قبل تمني الرجوع؛ لأنه يغيظ المتبوعين؛ حيث تبرءوا من الأتباع أو لا، ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل؛ لأن تبرؤ الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالانفصال عنهم بعدما تبين لهم عدم نفعهم، وذلك لا يغيظ المتبوعين لاشتغال كل منهم بما يقاسيه، فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرءوا منهم تبرؤا يغيظهم. وأما قوله سبحانه : كما تبرءوا فلا يقتضي إلا وقوع التبرؤ من المتبوعين، وهو منصوص في آية أخرى، ولا يقتضي أن يكون مذكورا فيما سبق، وقيل: إن الأتباع بعد أن ( تبرءوا ) من المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم ليتبرءوا منهم فيها ويخذلوهم، فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة، ويحتاج هذا التوجيه إلى اعتبار التغليب في (لنا) أي: لنا ولهم؛ إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين.

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك في موضع المفعول المطلق لما بعده، والمشار إليه الإراء المفهوم من إذ يرون أي: كإراء العذاب المتلبس بظهور أن القوة لله والتبري، وتقطع الأسباب، وتمني الرجعة.

                                                                                                                                                                                                                                      يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وجوز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد، والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة، ومحله النصب على المصدرية أيضا؛ أي ذلك الإراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا والجملة تذييل لتأكيد الوعيد، وبيان حال المشركين في الآخرة وخلود عذابهم، ويجوز أن تكون استئنافا، كأنه لما بولغ في وعيدهم وتفظيع عذابهم كان محل أن يتردد السامع ويسأل هل لهم سوى ذلك من العذاب أم تم؟ فأجيب بما ترى، و (حسرات) أي: ندمات، وهو مفعول ثالث ليرى إن كانت الرؤية قلبية، وحال من (أعمالهم) إن كانت بصرية، ومعنى رؤية هؤلاء المشركين (أعمالهم) السيئة يوم القيامة (حسرات) رؤيتها مسطورة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وتيقن الجزاء عليها، فعند ذلك يندمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى، و عليهم صفة حسرات وجوز تعلقه بها على حذف المضاف؛ أي: تفريطهم؛ لأن ( حسر ) يتعدى بـ ( على ) واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع وما هم بخارجين من النار 167 المتبادر في أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو وما أنا [ ص: 37 ] بطارد الذين آمنوا وما أنت علينا بعزيز ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى: والذين آمنوا أشد حبا لله في النار، وإذا أريد من ( الذين ظلموا ) الكفار مطلقا دون المشركين فقط كان الحصر حقيقيا، ويكون المقصود منه المبالغة في الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم، فإن الشركة تهون العقوبات، وقيل: إن المقصود نفي أصل الفعل؛ لأنه اللائق بمقام الوعيد لا حصر النفي؛ إذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الانفراد، وإن كان صحيحا بالنظر إلى العصاة، إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص، والرجوع إلى الدنيا، وزيادة ( الباء ) وإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي، وأنت تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما يقال، سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر، ومن ذلك قوله تعالى: يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها فليس القول بعدم الحصر نصا في الاعتزال كما وهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية