الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          بعد ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى وصفا للطبيعة الإنسانية سواء كانت كافرة أم مؤمنة، فقال: ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا .

                                                          كتبت العين مجردة من الواو، أي الواو محذوفة في الكتابة تبعا لحذفها في النطق بسبب التقاء الساكنين، فحذفت في الكتابة، وهذا ينبئ عن حقيقة مقررة، وهو أن القرآن الاعتماد فيه على القراءة، وعلى حفظه في الصدور، لا في السطور وذلك هو الذي حفظه إلى يومنا وحتى يوم القيامة.

                                                          وقوله تعالى: دعاءه بالخير أي أن دعاء الشر من الإنسان كدعاء الخير، لا يتدبر فيه ولا يتريث، ولا يضبط نفسه بالتروي والتدبر، كما يدعو بخير واضح الخيرية نتيجته حسنة، وثمراته بادية، وقد وصف الله تلك الحال بأنها من طبيعة الإنسان، فقال: وكان الإنسان عجولا

                                                          ونريد أن نقف قليلا عند تفسير معنى «يدعو» ومعنى الشر والخير، أما معنى الشر فهو كل أمر لا نفع فيه ويسوء، ويؤدي إلى فساد وضرر، كالشرك، والعذاب، والإيذاء، والفتنة في الدين، وتعجل كل ما هو مؤذ لنفسه أو لغيره، والخير كل ما فيه نفع عام أو خاص أو رفع ضرر، أو ما هو حق في ذاته كالتوحيد، والإيمان بالله ورسوله والملائكة واليوم الآخر، هذا هو معنى الشر والخير، أو هذا نظر بين يقرب معنى الخير والشر، والشر والخير الحكم الديني [ ص: 4344 ] والخلقي فيهما إلى النية المحتسبة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر المعنى: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته لله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه» .

                                                          ونتكلم في معنى يدعو، أهي من الدعاء، أم من الدعوة؟ فإذا كانت من الدعاء تكون بمعنى دعاء الله بالشر كدعائه بالخير لا يتروى فيه، ففي الخير المسارعة فيه خير؛ لأنها مبادرة إليه، والمسارعة إليه مطلوبة، لقوله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض وأما المسارعة بالدعاء إلى الشر فذلك ممقوت، كالدعوة على النفس بالهلاك عند الغضب، وكدعاء إنزال العذاب، كقول الله على لسان المشركين فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين وقد قال تعالى لائما على ذلك: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون

                                                          هذا إذا كان يدعو من الدعاء، أما إذا قلنا إنها من الدعوة وتجيء بمعنى الدعاء فالمعنى أن الإنسان يدعو نفسه وغيره متلبسا بالشر، كدعوته إلى الخير، وإذا كانت الدعوة إلى الخير محمودة العاقبة في ذاتها لأنها خير مآلا، ولأنها مرئية في ذاتها فالدعوة المتلبسة بالشر تحتاج إلى تعرف عواقبها ونهايتها، والتروي والتدبر في دواعيها، وإذا فكر وتدبر لا يفعل إلا ما يؤدي إلى النفع، ولكنه لا يفعل، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: وكان الإنسان عجولا وذلك كقوله تعالى: خلق الإنسان من عجل فهو في طبعه التعجل إلى الأمور، والعاقل من يتأنى ويتدبر ويصبر، ويدرس الأمور، فإذا كانت العجلة من غرائزه، فالإدراك يهذب هذه الغريزة، ويجعلها متناسقة مع مواهبه، وكذلك كل غريزة تشذب [ ص: 4345 ] بغيرها من الغرائز، فإذا كانت فيه الغريزة الجنسية، فالعقل يجعلها في الحلال، وإذا كانت غريزة العجلة، فالعقل يضبطها بالصبر.

                                                          هذا مقام القرآن، وهذا هو الإنسان،

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية