الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
تشديد أن لا يحمي أحد على أحد

( قال الشافعي ) أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { من منع فضول الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة } .

( قال الشافعي ) ففي هذا الحديث ما دل على أنه ليس لأحد أن يمنع فضل مائه ، وإنما يمنع فضل رحمة الله بمعصية الله فلما كان منع فضل الماء معصية لم يكن لأحد منع فضل الماء ، وفي هذا الحديث دلالة على أن مالك الماء أولى أن يشرب به ويسقي وأنه إنما يعطي فضله عما يحتاج إليه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته } وفضل الماء الفضل عن حاجة مالك الماء .

( قال الشافعي ) : وهذا أوضح حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الماء ، وأشبه معنى ; لأن مالكا روى عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يمنع نفع البئر } .

( قال الشافعي ) فكان هذا جملة ندب المسلمون إليها في الماء ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أصحها وأبينها معنى .

( قال الشافعي ) وكل ماء ببادية يزيد في عين ، أو بئر ، أو غيل أو نهر بلغ مالكه منه حاجته لنفسه وماشيته وزرع إن كان له فليس له منع فضله عن حاجته من أحد يشرب ، أو يسقي ذا روح خاصة دون الزرع وليس لغيره أن يسقي منه زرعا ، ولا شجرا إلا أن يتطوع بذلك مالك الماء ، وإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته } ففي هذا [ ص: 51 ] دلالة إذا كان الكلأ شيئا من رحمة الله أن رحمة الله رزقه خلقه عامة للمسلمين وليس لواحد منهم أن يمنعها من أحد إلا بمعنى ما وصفنا من السنة والأثر الذي في معنى السنة ، وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين : أحدهما أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل ، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى .

( قال الشافعي ) فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام ويحتمل أن يكون منع الماء إنما يحرم ; لأنه في معنى تلف على ما لا غنى به لذوي الأرواح والآدميين وغيرهم ، فإذا منعوا فضل الماء منعوا فضل الكلأ ، والمعنى الأول أشبه والله أعلم ، فلو أن جماعة كان لهم مياه ببادية فسقوا بها واستقوا ، وفضل منها شيء فجاء من لا ماء له يطلب أن يشرب أو يسقي إلى واحد منهم دون واحد لم يجز لمن معه فضل من الماء ، وإن قل منعه إياه إن كان في عين ، أو بئر ، أو نهر ، أو غيل ; لأنه فضل ماء يزيد ويستخلف ، وإن كان الماء في سقاء ، أو جرة ، أو وعاء ما كان ، فهو مختلف للماء الذي يستخلف فلصاحبه منعه ، وهو كطعامه إلا أن يضطر إليه مسلم والضرورة أن يكون لا يجد غيره بشراء ، أو يجد بشراء ، ولا يجد ثمنا فلا يسع عندي والله أعلم منعه ; لأن في منعه تلفا له ، وقد وجدت السنة توجب الضيافة بالبادية والماء أعز فقدا وأقرب من أن يتلف من منعه وأخف مؤنة على من أخذ منه من الطعام فلا أرى من منع الماء في هذه الحال إلا آثما إذا كان معه فضل من ماء في وعاء ، فأما من وجد غنى عن الماء بماء غير ماء صاحب الوعاء فأرجو أن لا يخرج من منعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية