الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير

                                                                                                                                                                                                فإن قلت : فما تصنع بقوله : قل سيروا في الأرض ؟ قلت : هي حكاية كلام حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه ، كما يحكي رسولنا صلى الله عليه وسلم كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن فإن قلت : فإذا كانت خطابا لقريش فما وجه توسطهما بين طرفي قصة إبراهيم والجملة أو الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه ألا تراك لا تقول : مكة -وزيد أبوه قائم- خير بلاد الله ؟ قلت : إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة [ ص: 543 ] للتنفيس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وأن تكون مسلاة له ومتفرجا بأن أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوا بنحو ما مني به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله : وإن تكذبوا ، على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدا فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها ؛ لأن قوله : فقد كذب أمم من قبلكم لا بد من تناوله لأمة إبراهيم ، وهو كما ترى اعتراض واقع متصل ، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها ، لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله ، وهدم الشرك وتوهين قواعده ، وصفة قدرة الله وسلطانه ، ووضوح حجته وبرهانه . وقرئ : "يروا" بالياء والتاء . ويبدئ ويبدأ . وقوله : ثم يعيده ليس بمعطوف على يبدئ ، وليست الرؤية واقعة عليه ، وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت ، كما وقع النظر في قوله تعالى : فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة على البدء دون الإنشاء ، ونحوه قولك : ما زلت أوثر فلانا وأستخلفه على من أخلفه . فإن قلت : هو معطوف بحرف العطف ، فلا بد له من معطوف عليه ، فما هو ؟ قلت : هو جملة قوله : أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق وكذلك : وأستخلفه ، معطوف على جملة قوله : ما زلت أوثر فلانا " ذلك" يرجع إلى ما يرجع إليه هو في قوله : وهو أهون عليه [الروم : 27 ] من معنى يعيد . دل بقوله النشأة الآخرة على أنهما نشأتان ، وأن كل واحدة منهما إنشاء ، أي : ابتداء واختراع ، وإخراج من العدم إلى الوجود ، لا تفاوت بينهما إلا أن الآخر إنشاء بعد إنشاء مثله ، والأولى ليست كذلك . وقرئ : "النشأة" و "النشاءة " ، كالرأفة والرآفة . فإن قلت : ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله : ثم الله ينشئ النشأة الآخرة بعد إضماره في قوله : كيف بدأ الخلق ؟ وكان القياس أن يقال : كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة ؟ قلت : الكلام معهم كان واقعا في الإعادة ، وفيها كانت تصطك الركب ، فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله ، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء ، فهو الذي [ ص: 544 ] وجب أن لا تعجزه الإعادة ، فكأنه قال : ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة ، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ يعذب من يشاء تعذيبه ويرحم من يشاء رحمته ، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب "تقلبون" تردون وترجعون وما أنتم بمعجزين ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة ولا في السماء التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها ، كقوله تعالى : إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا [الرحمن : 33 ] ، وقيل : ولا من في السماء كما قال حسان -رضي الله عنه- [من الوافر ] :


                                                                                                                                                                                                أمن يهجو رسول الله منكم . . . ويمدحه وينصره سواء ؟



                                                                                                                                                                                                ويحتمل أن يراد : لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها ، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء ، كقوله تعالى : ولو كنتم في بروج مشيدة [النساء : 78 ] أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجري عليكم ، فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية