الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تقررت هذه الأحكام على هذه الوجوه الجليلة؛ وأشارت بحسن ألفاظها؛ وشرف سياقها إلى أغراض هي؛ مع جلالتها؛ غامضة دقيقة؛ فلاح بذلك أن القرآن تبيان لكل شيء؛ في حق من سلم من غوائل الهوى؛ وحبائل الشيطان؛ وختم ذلك بالحث على العمل الصالح؛ وكان القرآن؛ تلاوة وتفكرا؛ وعملا بما ضمن؛ [ ص: 250 ] أجل الأعمال الصالحة؛ تسبب عن ذلك الأمر بأنه إذا قرئ هذا القرآن المنزل على مثل تلك الأساليب الفائقة؛ يستعاذ من الشيطان؛ لئلا يحول بوساوسه بين القارئ؛ وبين مثل تلك الأغراض؛ والعمل بها؛ وحاصله الحث على التدبر؛ وصرف جميع الفكر إلى التفهم؛ والالتجاء إليه (تعالى)؛ في كل عمل صالح؛ لئلا يفسده الشيطان بوساوسه؛ أو يحول بين الفهم؛ وبينه؛ بيانا لقدر الأعمال الصالحة؛ وحثا على الإخلاص فيها؛ وتشمير الذيل عند قصدها؛ لا سيما أفعال القلوب؛ التي هي أغلب ما تقدم هنا؛ فقال (تعالى) - مخاطبا لأشرف خلقه؛ ليفهم غيره من باب الأولى؛ فيكون أبلغ في حثه؛ وأدعى إلى اتباعه -: فإذا قرأت ؛ أي: أردت أن تقرأ؛ مثل: "وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا"؛ القرآن ؛ الذي هو قوام العمل الصالح؛ والداعي إليه؛ والحاث عليه؛ مع كونه تبيانا لكل شيء؛ وهو اسم جنس؛ يشمل القليل منه؛ والكثير؛ فاستعذ ؛ أي: إن شئت جهرا؛ وإن شئت سرا; قال الإمام الشافعي : والإسرار أولى في الصلاة؛ وفي قول: يجهر كما يفعل خارج الصلاة؛ بالله ؛ أي: سل الذي له الكمال كله أن يعيذك؛ من الشيطان ؛ أي: المحترق باللعنة؛ الرجيم ؛ أي: المطرود عن الرحمة؛ من أن يصدك بوساوسه عن اتباعه؛ فإنه لا عائق [ ص: 251 ] عن الإذعان؛ لأساليبه الحسان؛ إلا خذلان الرحمن؛ بوساوس الشيطان؛ فقل: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"؛ لأن ذلك أوفق للقرآن؛ وقد ورد به بعض الأخبار؛ عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا؛ وهو المشهور؛ ونص عليه الإمام الشافعي - رضي الله عنه -؛ والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة؛ فيها القراءة بدون ذكر تعوذ؛ كحديث البخاري؛ وغيره؛ عن أبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال له: "ما منعك أن تجيبني؟"؛ قال: كنت أصلي؛ قال: "ألم يقل الله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم "؛ ثم قال: "لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؛ الحمد لله رب العالمين "؛ وفي رواية الموطإ أنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - نادى أبيا؛ وأنه قال: "كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟"؛ قال أبي: فقرأت: الحمد لله رب العالمين ؛ حتى أتيت على آخرها.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن طالع كتابي "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور"؛ رأى مثل هذا أحاديث كثيرة جدا؛ من أحسنها حديث [ ص: 252 ] نزول سورة "الكوثر"؛ وقيل: التعوذ بعد القراءة؛ لظاهر الآية؛ وختام القرآن بالمعوذتين موافق لهذا القول؛ بالنسبة إلى الحال؛ والقول الأول الصحيح بالنسبة إلى ما ندب إليه المرتحل من قراءة "الفاتحة" وأول "البقرة".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية